٢٠٠٩/٠٤/٢٢

هنا استعادة لفيلم مقتبس عن قصة حقيقية لقاتلة تدعى آيلين ورنوز و عن ذلك الاداء المميز للممثلة شارليز ثيرون في أول فيلم للمخرجة باتي جينكينز


تميزت آيلين ورنوز عن غيرها من المجرميين ذوي الجرائم المتسلسلة في كونها امرأة مارست القتل لاسباب متعددة ضد الجنس الآخر و أصبحت واحدة من العديد من الشخصيات التي مازالت ماثلة في كينونة "تراجيديا الضواحي " .

هي آيليين ورنوز التي نطقت أمام محكمة الجزاء العليا بجرائمها المتسلسلة ضد سبعة رجال في فترة امتدت ما بين ١٩٨٩ و ١٩٩٠ في ولاية فلوريدا. كانت حجتها أن هؤلاء الرجال اغتصبوها خلال عملها كمموس و أنها غير نادمة على فعلتها معترفةً أنها قتلتهم بدم بارد. هذا و قد جاءت رسالتها معبرة بوضوح أمام المحكمة عن مدى غضبها : " كنت تحت وقع الغضب الذي كان يزداد اشتعالاً، و لعدة سنوات ، ولو اتيح الامر لي لكان من الطبيعي أن أقتل مجدداً و بكراهية خالصة كما فعلت بهؤلاء الرجال".

اشتهرت آيلين أيها شهرة و تدافعت المنظمات النسائية لتقديم الحجج ضد الحكم باعدامها ، لكن المحكمة العليا أصدرت حكمها النهائي بالاعدام ( تم تثبيت عقوبة الاعدام مجدداً عام ١٩٧٦) في ولاية فلوريدا في التاسع من أكتوبر ٢٠٠٢ عن طريق الحقنة السامة بالوريد. في حين و على مقربة من الحدث التاريخي كانت باتي جينكينز منشغلة بكتابة سيناريو فيلمها حول آيليين.

أرادت المخرجة كتابة سيناريو " الوحش" (Monster. 2003)، بكل عزيمة بسبب احتوائة لجميع عناصر النجاح و لكون هذا الفيلم يشكل الفرصة السانحة لتثبيت مدى جدارتها كمؤلفة و مخرجة في أول فيلم لها، لدي تخرجها من المعهد الامريكي للسينما، وكان لها ما تريد. تقول باتي جينيكينز عن تلك التجربة الاولى في كتابة السيناريو أنه لم يكن يجول في بالها أثناء الكتابة أي من الممثلين سوى صورة وحيدة للممثلة شارليز ثيرون (Charlize Theron) في الدور الرئيسي . و ما أن وصل السيناريو الى مسامع البعض حتى اكتمل نصاب الممثلين . الميزانية المتواضعة للفيلم، أسهم المنتج مارك دايمون في تأمين تكاليفها عبر عدد من المساهمين الذين آمنوا بقوة الفيلم في احداث الصدى المرجو .

و هكذا استطاعت المخرجة جمع أكبر قدر ممكن من المواد المختلفة لكتابة السيناريو. جله تم جمعه من الافلام الوثائقية ، الريبورتاجات التلفزيونية ، وثائق التحقيق، المقالات الصحفية ، بيانات المحكمة و أهمها حكايات الرسائل المتبادلة ما بين آيلين و صديقتها القديمة ، دون بوتكينز. فغداة الاعلان عن توقيف آيلين ورنوز ، تنبهت ، دون بوتكينز، لصديقتها التي انقطعت أخبارها منذ أمد طويل و قمنا بتبادل الرسائل لمدة الاثنتى عشرة سنة الى حين تطبيق عقوبة الاعدام في أواخر ال ٢٠٠٢ . و مع اصرار المخرجة جينكينز ، سمحتا لها بالاطلاع على تلك الرسائل . و حين أتى اليوم الذي وقف أقرباء الضحايا لمشاهدة عقوبة اعدام آيلين ، تسرب الاسى الى بوتكينز.


Charlize Theron

بالعودة الى الممثلة القديرة شارليز ثيرون ، التي حصدت جائزة الاوسكار كأفضل ممثلة عن هذا الدور، قدمت دوراً بمنتهى القوة tour de force ، حتى كاد الجمهور يظن أن آيلين ورونوز قد عادت من قبرها لاعادة تمثيل جرائمها. شارليز ثيرون بدورها قامت على دراسة متأنية للسيرة ورنوز الذاتية حتى تعمقت بشخصيتها و اقتنعت بالتحدي الذي قد يخلقه هذا الدور، كتجسيد لحالة الاداء الافتراضي حين يخرج الممثل من شخصيته و يدخل في تلك المراد تجسيدها أمام العدسة ، وهذا اقتباس من مدرسة ستاينسلافسكي حيث يُقدم الممثل على معايشة الدور مظهراً وجدانية و مشاعر الشخصية مبقياً نفسه على مسافة واحدة من الشخصية الحقيقية. شارليز ثيرون أخذت من تلك المدرسة و نفخت من روح كريسمتها فيها.

هذا مع العلم أن مسار الفيلم لا يقدم تعاطفاً كلياً مع شخصية آيلين مفضلاً اظارها على حقيقتها مع الاضائة على بعض الجوانب القاسية في حياتها، و شارليز ثيرون تجسد الشرائح المختلفة و المعقدة لتلك الشخصية في لحظاتها الضعيفة و المأثرة و تلك القاسية و العنيفة. أما من ناحية متطلبات الدور، فقد لزم على شارليز ثيرون زيادة وزنها، و الخضوع لتمارين جسدية قاسية ، و قبل بدأ التصوير نال المكياج من ملامح الوجه ، الانف ، الاسنان و الشعر ، و تحولت الى شخص آيلين بكل ما بدت عليه ، جسدياً و لغوياً، لدي بدأ اشارة التصوير.

قصة الفيلم تبدأ كقصة حب بين عشيقتين . تلتقي آيلين (شارليز ثيرون) ب سيلبي (كريستينا ريتشي . و هي نجمة الافلام المستقلة الامريكية بامتياز و تعبر عن جيل هيبستر التسعينات ) ، و هي شابة قليلة التجارب و ساذجة . يقررن المضي سويةً بعلاقتهما مهما تطلب الامر من مصاعب . الحالة المتشظفة لطبقة العمالة المتدنية الاجر في بقاع السوبربيا الامريكية ، تنتمي اليها كل من آيلين و سيلبي في علاقة حب يشوبها المغامرة و التمرد على واقع صعب. لدي سيلبي رغبات مادية جمعة تدفع ب آيلين للعمل كمموس على الطريق لتوفير بدائل العيش. لكن مهنة آيلين محفوفة بالمتاعب، فما أن تلتقي بأول زبائنها حتى ينهال عليها بضرب ماسوتشي يفقدها وعيها ، مشبعاً جسدها اغتصاب و حقد دفين. لكنها تستعيد و عيها و ترُد باطلاق الرصاص عليه ليلاقي حتفه . تسلبه محفظته و سيارته و تنسحب من المشهد على عجالة ، و تتوارى وصديقتها سيلبي عن الانظار في أحد الفنادق الرخيصة. هذه الحادثة تولد شعوراً صاخباً داخل آيلين و تقرر أن لا تكون الضحية بل الجلاد. و هكذا تتوالى حوادث القتل المتعمد ضد رجال ارادوا افراغ كبتهم الجنسي مع مموس خطرة سرعان ما ينقلب الى كابوس قاتل. و كلما نالت من ضحاياها حصدت ما في جعبتهم من غنائم ارضاءاً لمحبويتها. لكن ضحاياها ليس جلهم من المهوسين بالجنس الرخيص، بل أن احدهم يقدم خدماته من دون مقابل، وهذا الشيء لم يعد يشكل نازعاً للشفقة، فقد باتت آيلين غير قادرة عن التفريق بين الصالح و الطالح و أصبح جميعهم كالوحوش بالنسبة لها. و عند آخر جرائمها يفتضح أمرها لدي المحققين اثر تنازل صديقتها سيلبي عنها و تقع في مكيدتهم.


شهدت السينما على مرور الازمنة تلك الاثارة البارزة لافلام المجرمين ذوي الجرائم المتسلسلة و المترابطة فيما بينها. المحققين (يغيب دورهم في هذا الفيلم لان التركيز مخلص للشخصية) يتابعون خيوط الجريمة و ما يتركه المجرم المحترف من أدلة و اساليب قتل يسعون عبرها لفك لغزها و الوصول للمجرم قبل صقوط المزيد من الضحايا - في كتابتي لهذه السطور ترتسم في مخيلتي مشهد القاتل المهوس في " صمت الحملان " ( ١٩٩١) متراقصاً أمام صيحات ضحاياه داخل القبو المعتم - لكن آيلين تنتمي الى الفئة الاخرى من المجرمين المتسلسلين ( الغير محترفين) . فهي مدفوعة بفعل ظروف قاسية و سقوط نفسي رهيب، لارتكاب جرائم فادحة بحق رجال تم اختصارهم جميعاً في صورة معتدي متوحش (و قد تعود ايضاً لطفولة مجروحة بفعل العنف الاسري و التحرش الجنسي المتواصل) خلف لديها عقدة الانتقام من دون تميز. المخرجة لم تقدم الفيلم كنسخة متسامحة مع تلك الشخصية ، بل قدمتها من كافة نواحيها و قد يكون عنوان الفيلم يحمل جزءاً من تلك الفكرة... فتلك اللحظة التي يستجدي فيها أحد الضحايا الرحمة ، تصرخ آيلين بمرارة غير مصغيةً لندائه و تسكته بدمٍ بارد. و في المقلب الآخر، كان بعض الرجال من المستسهلين الجنس السريع و الرخيص على جانب الطريق، غير عابئين لعواقب ما قد تؤول اليه الامور من مخاطر. فيما بعد أتى رفض الاقرار من قبل أقارب الضحايا في حيثية أن يكون أزواجهم من مريدي الهوى.

و هكذا أتى فيلم " الوحش" و قعه قوياً على الجمهور الواسع محققاً الكثير من النجاح و محرزاً جائزة مستحقة لممثلته شارليز ثيرون و مقدماً مخرجته باتي جينكينز و قد قفزت الى سلم الشهرة و بدا فاتحةً لاعمال أخرى . و في الوقت ذاته بقيت صورة آيلين ورنوز ماثلةً أمام أعين المشاهدين الذين تعاطفوا معها تارةً و استشاطوا غضباً من جرائمها تارةً أخرى.


ليست هناك تعليقات: