٢٠٠٩/١٠/٢٠

TOKYO SONATA

واخيراً ، حظيت بفرصة مشاهدة فيلم المخرج كيوشي كوروساوا " معزوفة توكيو " - الذي اتابع اعماله باستمرار في حال توافرها على اقراص المدمجة - و كان عرضه الاول مشكوراً ( وبشدة) ضمن الدورة التاسعة لمهرجان بيروت الدولي للافلام هذه السنة.

"معزوفة توكيو " (Tokyo Sonata) يأتي في زمن الازمات الاقتصادية و ارتفاع معدل البطالة في العالم و انعكاساتها محلياً. لكن تلك الازمات تجدها انعكاس طبيعي لتبدل في ظروف العمل و تقليص حجم الانفاق و بالتالي الاستغناء عن خدمات عدد كبير من الموظفين. يتحول الموظف بين ليلٍ و ضحاه الى عاطل عن العمل و يتوقع أن يجد بديلاً لكن البديل لا يأتي بسهولة ابداً.

السيد نوماتا (الذي يؤدي دوره الممثل تيرويوكي كاغاوا) يجد نفسه مجبراً على ترك عمله بعد أن تم الاستغناء عنه ، و لصون كرامته أمام اسرته يضطر الى الادعاء غير ذلك و الذهاب يومياً في رحلة البحث عن وظيفة مناسبة تليق بمأهلاته. يشعر نوماتا أن المفاهيم السابقة التي تربى عليها لم تعد ممكنة و أن عالمه فد اهتز ، وأن عليه أن يتأقلم مع الوضع الحالي وان اضطر الى الوقوف لساعات طويلة سعياً وراء وظيفة ، و احياناً اكل وجبة رخيصة مقدمة من لجان مساعدة المتسكعين و العاطلين عن العمل. سلتطه في المنزل تتعرض للاهتزاز ايضاً، عندما يتحداه ابنه الكبير - الذي يجد حياته كالورق الملقى عبثاً في مياه النهر - بالاصرار على الالتحاق بالجيش الامريكي في العراق . تلك الامور تستدعي اعادة النظر بالمُثل التي لم تعد قائمة في عصر خلق تحديات و هزائم هي من صنيعة ذاك المجتمع ذاته الذي يعيد انتاج نفسه. في حين يحاول الابن الاصغر ، المفتون بمعلمة البيانو ، يحاول اقناع والده بالالتحاق بالدروس الخصوصية للعزف علي البيانو و لكن من دون جدوى ، لكنه يعمد الى استعمال مال الوجبات المدرسية لدفعها سراً للدروس الخصوصية . في حين أن الزوجة ميغومي ( الممثلة المبدعة كيوكو كيوزومي) هي الزوجة الداعمة لزوجها و أولادها ، أي دورها تقليدي في الدفاع عن رغبات ابنائها و اعداد الطعام .

جلوس العائلة الى مائدة الطعام تشي بالكثير عن طبيعة العلاقات الاسرية . يلتزم الجميع الى مأدبتهم ، رب الاسرة يآذن ببدء الأكل و هكذا يشرع الجميع الى التهام وجبتهم . يشرع الاب الى الاستفسار من ابنائه عن يومهم و هكذا ... تلك اللحظات قد يعكرها كلام من هنا و من هناك و يغادر أحدهم المائدة تاركاً الكل يجول بأفكاره.... تلك و غيرها من المشاهد تثير الكثير من قضولنا لانها تشبه يومياتنا. و هنا يأخذ المخرج كوروساوا تلك اللحظات في صميم تسلسل فيلمه.

من تابع أفلام المخرج كيوشي كوروساوا ، قد يفاجئ بمدى ببساطة أحداث الفيلم ، و هو المعروف لفترة من الوقت بأفلام الرعب و الغموض بدأً من فيلميه المشهوريين "دواء " (Cure) و "نبض" (Pulse) ، يغرد خارج السرب في "معزوفة توكيو " لانه من المخرجيين اللذين لا يقفوا عند نوع معين من الافلام بل تسمح لهم ابداعاتهم التوسع خارج الاطار و الخوض في تجارب غير ملتزمة بمسار معين سينمائياً. وفي حالة "معزوفة توكيو" تبدأ لمسات المخرج بالظهور في الجزء الثالث من الفيلم حين تأخذ الامور بالتعقيد والغوص في الغموض ، حتى و كأن الامور تأخذ منحى السريالية و الكابوس المزعج الذي ما أن يبدأ حتى تبدأ العلاقات بالتلاشي و الاضمحلاح في وعاء من الفراغ (اليس " التنبئ " The Shinning للمخرج العظيم كوبريك نموذجاً عن تداخل الكابوس الذي ينقلب حقيقة و يدمر حياة الاسرة بعيداً عن الجميع ؟)

غياب المخرج لفترة من الزمن و عودته المفاجأة هي عودة محمودة و متوقعة من مخرج يعرف تماماً ما يريده و كذلك جمهوره و المعجبين بأعماله.

٢٠٠٩/١٠/١٤

أفلام وثائقية تستحق المتابعة




ذاكرة مثقوبة (Perforated Memory)

سنة الانتاج: 2008

مدة الفيلم: 62 min

المخرج(ة): ساندرا ماضي

العرض : عرض في مهرجان بيروت للافلام الوثائقية و حصل على جائزة أفضل فيلم طويل (60+) في فئة الافلام العربية


تعود بنا المخرجة الفلسطينية الى الرعيل الاول من الفدائيين الفلسطينين و لكن ليس الى حقولهم و معسكرات التدريب و لكن الى مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في الاردن و قد اثقلتهم الايام بهمومها و أصبحوا مجبرين على الانتظار الطويل في مكاتب المنظمة ليتداولوا شؤون "البلاد" و يتذكروا تلك الايام الغابرة بصمت. كاميرة ساندرا ماضي ترسم معالم الوجوه الحائرة التي يضيء عتمتها ومضات شاشة التلفاز التي تنقل الاخبار عن فلسطين التي لا تغيب عن بالهم ، و في أحيان أخرى سقوط النور الاتي من النافذة على رجال يراقبون ضيعهم المحتلة من على خريطة فلسطين. السقوط الرهيب للايدلوجية التي آمن بها هؤلاء المحاربين الذين باتوا غير مصدقين ما آلت اليه حالهم هو مشروع ذاكرة مثقوبة.


---------------------------------------------------------------------------


ذاكرة و جذور (Memory and Roots)


سنة الانتاج: 2008

مدة الفيلم: 40 min

المخرج : فاروق داوود

العرض: عرض ضمن مهرجان بيروت الدولي للافلام الوثائقية و حصل على جائزة أفضل فيلم متوسط (60-) في فئة الافلام العربية


"ذاكرة و جذور" يحكي قصة الروائي العراقي غايب فرمان و صراعه من اجل التصالح مع حياته في المنفى بعيداً عن وطنه و ذلك بعد أن أجبر على مغادة العراق عدة مرات.

ينتقل المخرج فاروق داوود لتوثيق هذه الحالة باستعمال كاميرة ١٦ مم - و الذي يبرع بمزج حالة السكون البارد في الغربة مع حرارة الشوق الى أرض الوطن فتبدو الصورة ( المتشققة و الخارجة من التحميض و ليس الديجيتال) مختلطة على المشاهد بين الماضي و الحاضر و هذا ما يعكس الرؤية الشعرية لفيلمه: الانتقال من المصباح القديم الى غرفة الشاعر المليئة بالكتب و كرسيه الفارغ المطل على البارك المغطى بالجليد و من ثم العودة سريعاً على متن قطار يسير على سكة الماضي.

بعد مشاهدة الفيلم ، نستطيع أن نقدر العناصر المختلفة التي أدت بالعراق الى هذه المأساة الحديثة التي نراها اليوم.

--------------------------------------------------------------------------


رب البيت (God of the House)


سنة الانتاج: 2009

مدة الفيلم: 12 min

المخرج: أنس بلعوي

العرض: حصل على جائزة أفضل فيلم قصير في فئة الافلام العربية في مهرجان بيروت الدولي للافلام القصيرة


العلاقات المعقدة بين الاب و الابن يعكسها أنس في فيلمه الشخصي و الذي يحاول نقل تلك التجربة التي تتفاعل على الشاشة. العلاقة ليست سوية و مليئة بالمشادات الكلامية لعل عوامل العادات والتقاليد و الدين كلها تلعب دوراً في تغذيتها.


---------------------------------------------------------------------------


بلال (Bilal)


الانتاج: 2008

مدة الفيلم: 88 min

المخرج: سوراف سرانجي

العرض: حصل الفيلم على جائزة أفضل فيلم طويل في فئة الافلام الدولية


في مدينة كلكاتا الهندية ، يقطن طفلين مبصرين مع والديهما الفاقدي للبصر هي حالة استثنائية بكل المقايس ، تلك الظروف الصعبة ينقلها المخرج سوراف سرانجي ، الذي واكب العائلة لفترة من الزمن وعاش تفاصيل حياتهم اليومية ، ينقلها بكل تجرد.

يبلغ بلال الثالثة من العمر و لديه أخ رضيع ، معاً يعيشان لعبة الابصار و العمى. و مع أن بلال لا يزال في المقتبل من عمره ، فهو مدركاً جيداً لحالة والديه. يعلم كيف يتواصل معهما من خلال الصوت و اللمس. و لديه الدراية الكافية لتوجيه والديه وسط اشتداد زحمة الشارع.

وخلافاً لاوضاع أيامنا الحالية ، أصبحت تربية بلال مسؤلية جماعية لكافة جيرانه.

الفيلم مجرد من كل الشكليات ، ينقل سوراف الواقع كما هو و كأننا نعيش مع يوميات العائلة مع الاحتفاظ بقرد عالي من الانسانية و جمالياتها.


--------------------------------------------------------------------------


الرجل الذي عبر الصحراء (The Man who Crossed the Sahara)


الانتاج : 2008

مدة الفيلم : 53 min

المخرج: كوربيت ماثيوس

العرض: حصل الفيلم على جائزة أفضل فيلم متوسط الطول في فئة الافلام الدولية


تقترب الكاميرة رويداً رويداً باتجاه حجرة بيضاء و مقفلة ، تبدو كمختبر للابحاث ، و لا ندري الكثير عنها. نعتقد في بداية الامر أن الفيلم له علاقة بالابحاث ، لكن يخرج رجل ليحدثنا عن تلك الحجرة التي هي عبارة عن خزان مثلج لحفظ الجثث البشرية لعدة سنوات الى حين يأتي ذاك اليوم الذي يصبح العلم متقدماً بحيث يصار الى اعادة الموتى الى العيش من جديد ! ننتقل من بعدها للتعرف على القصة المثيرة للمخرج الكندي فرانك كول الذي أصبح أول أمريكي شمالي يعبر الصحراء وحده على ظهر جمل. يستخدم الفيلم الصحراء كخلفية و يمزج أحدث أشكال الصور المتحركة مع المحفوظات الفوتوغراقية النادرة مع الافكار و المقابلات المثيرة للجدل.
الفيلم يأخذ من المادة الموجودة طريق البحث في حياة و موت واحد من أكثر سينمائي كندا غموضاً و يلقي الضوء على هوسه بموضوع "الموت" و الذي أدى في نهاية الامر الى مقتله على يد قطاع الطرق خلال رحلة عبور ثانية في أفريقيا سنة ٢٠٠٠ .
الفيلم مصنوع بطريقة سينمائية مبتكرة يرسم من خلاله ملامح الغموض مع هفوات من الابحار في السيكولوجية الميتافيزية لعالم فرانك كول الذي فضل الانعزال عن محيطه و الاتجاه الى المجهول غير عابئاً بالنتائج.

-----------------------------------------------------------------------

الحياة المنعزلة للرافعات (The Solitary Life of Cranes)

الانتاج: 2008
مدة الفيلم: 27 min
المخرج(ة): ايفا ويبر
العرض: حصل الفيلم على جائزة أفضل فيلم قصير في فئة الافلام الدولية

من دون أدنى شك، تمتلك ايفا ويبر( المانية الاصل مقيمة في بريطانيا) ابداعاً جميلاً في نقل يوميات الاشخاص كطائر الذي حط عالياٍ على الاسلاك و أخذ يراقب الناس من بعيد ، وهذا الطائر هنا هو عامل الرافعات في أحد المدن المزدحمة لندن ، يراقب الناس و حركة المدينة و خفاياها. نسمع أصواتهم و نرى ما يرون. ما يظهر هو وساطة غنائية حول كيف أن وجودنا يتشكل من خلال البيئة التي نسكنها. سواء بالنسبة للسائقين عالياً في السماء ، أو الناس الذين يقعون في دائرة اهتمام من يراقبهم.

------------------------------------------------------------------------

ايجاد المنزل (Finding Home)

الانتاج: 2008
مدة الفيلم : 25 min
المخرج: كريستوفر دالي
العرض: حصل الفيلم على جائزة تنويه لجنة التحكيم

يقترب الملازم أول في سلاح مشاة البحرية الامريكية من سن التقاعد بعد ١٩ سنة من الخدمة الفعلية، شملت ثلاث جولات في العراق. يعود الى مسقط رأسه ، مع توقفه لزيارة عائلته ، يسترجع شبابه المضطرب وزواجه الفاشل.
ببطء، تطفو على السطح آثار الحرب . نرى رجلا يكافح من أجل وضع ماضيه خلفه، والعثور على منزل يشعر فيه بسلام.
يبرع كريستوفر باختبار تجربة الجندي و ماضيه الثقيل الظل ، يظهر أحاسيسه كأنه يحاول التطهر بدموعه من ذلك الهم الذي من الصعب التخلص منه .
هذا الفيلم هو فيلم تخرج امخرج من جامعة KASK، و هذا بحد ذاته ينبىء بالمزيد من الابداع في المسقبل القريب.


٢٠٠٩/١٠/١٠










جريدة السفير في 10/10/2009


«مهرجان بيروت الدولي للأفلام الوثائقية» في ميزان مسؤوليه وعيون مشاهديه

علي حمّود: نختبر مزاج الجمهور وتفاعله... عبير هاشم: تعرّضنا لضغوط كثيرة


نديم جرجوره

لا تزال الأسئلة الخاصّة بـ «مهرجان بيروت الدولي للأفلام الوثائقية»، الذي انعقدت دورته التاسعة بين الثاني والعشرين والثلاثين من أيلول المنصرم، معلّقة. هناك غياب دام عامين متتاليين، قيل إن سببه مالي بحت. وهناك عودة مفاجئة، تمّ التحضير لها سريعاً وبعيداً عن الأضواء الإعلامية تقريباً، شهدت إطلاق الدورة التاسعة هذه، بغياب أحد مؤسِّسَي المهرجان ومديره محمد هاشم. هناك كلام كثير حول نزاعات قائمة بين هاشم وجهات أوروبية تموّل نشاطات ثقافية وفنية لبنانية، بالإضافة إلى إقامته في الدوحة، منذ نهاية الدورة الثامنة خريف العام 2006، وهي إقامة مرتبطة بعمل شخصي في مجال الإنتاج الوثائقي التلفزيوني. هذه عناوين لا ترتكز على إثباتات، لكنها تثير تساؤلات حول مصداقية المهرجان، وقدرته على النهوض من غفوة العامين المتتاليين، وصدمة العودة المفاجئة، خصوصاً أن الدورة المقبلة يُراد لها أن تكون احتفالية ضخمة، بمناسبة «الذكرى» العاشرة للتأسيس، التي كان يُفترض بها أن تُقام في العام الفائت.

ارتباك

مسألة التمويل مُربكة للمهتمّ الذي تابع مسيرة المهرجان منذ تأسيسه في العام 1999، بفضل جهود مشتركة بين هاشم ومرسيل برسودير، الذي اختير عضواً في لجنة تحكيم المسابقة الرسمية الخاصّة بهذه الدورة. فالارتباك نابعٌ من أن الحجة غير مقنعة، لأن الدورات السابقة كلّها عانت مشكلة التمويل، ولأن قدرة محمد هاشم على تأمين تمويل سنوي جعلت المهرجان يستمرّ في تنظيم دوراته لغاية العام 2006. الصحيفة اللبنانية الناطقة باللغة الإنكليزية «دايلي ستار» نقلت عن هاشم قوله إن سبب الغياب مرتبط بمشكلة التمويل والوضع الأمني، في حين أن الزميلة ريما المسمار كتبت في «المستقبل» (18 أيلول الفائت) ما يشبه الردّ على هذا «الادّعاء» المشوب بـ «ثغرات عدّة»، بإشارتها إلى أن هاشم أعلن، في افتتاح الدورة ما قبل الأخيرة للمهرجان، المنعقدة بعد أسابيع قليلة على نهاية «حرب تموز» في العام 2006، عن شراكتين جديديتين عقدهما المهرجان مع «الاتحاد الأوروبي» ومؤسسة «لي وغاند». كتبت المسمار: «إن انعقاد المهرجان كان، بحدّ ذاته، تحدّياً عامذاك، شأنه في ذلك شأن المهرجانات اللبنانية الأخرى في أعقاب حرب تموز، التي واجهت تحدّيات الاستمرار والعمل في ظلّ ظروف أمنية وإنسانية صعبة. حتى العام الذي سبق حرب تموز، كان عاماً مشوباً بالذعر والقلق، بعيد أحداث شباط 2005 وما تلاها». ذلك أن المهرجان اجتاز عامين صعبين للغاية (2005 و2006)، أمنياً وسياسياً، وقبلهما رحلة فردية شاقة، خاضها هاشم وبعض المؤمنين بمشروعه منذ العام 1999، لتثبيت مكانة المهرجان في خارطة النشاطات الثقافية والفنية في لبنان: «ظنّ مهتمّون بالمهرجان أن إعلان الشراكتين مدخلٌ جوهري إلى حلّ أزمة التمويل»، كما قال هشام فرح، أحد متابعي المهرجان في دوراته القليلة الماضية. علماً أن علي حمّود (المدير الفني للمهرجان) قال إن «التمويل الذاتي» سمح بتنظيم الدورة الحالية هذه، تماماً كما كان يحصل في غالبية الدورات السابقة.
هذه الالتباسات كلّها، تُسَاق في إطار تساؤلات نقدية يطرحها معنيون بالهمّ السينمائي أولاً، وبمصير المهرجان ثانياً، الذي تأسّس قبل عشرة أعوام بهدف جعل الفيلم الوثائقي حاضراً في المشهد الثقافي اللبناني، وفي السعي الدؤوب إلى إقامة علاقة سليمة بينه وبين مشاهدين يُفترض بهم أن يروا في الوثائقي صنيعاً سينمائياً إبداعياً. غير أن الواقع الآنيّ محاصر بمزيد من الغموض، والقراءة النقدية الذاتية المتواضعة التي قدّمها علي حمّود ومديرة العلاقات العامّة عبير هاشم لا تكشف الحقائق بقدر ما ترغب في القول (أو ربما هذا ما يُستَشفّ من هذه القراءة ضمناً) إن العودة الراهنة تمهيدٌ لإطلاق المهرجان مجدّداً، أو ربما هي «تأسيس ثان». فقد أجمع الثنائي حمّود وهاشم على أن غياب المؤسِّس والمدير مردّه «انشغال الرجل في أعمال خاصّة به في الدوحة، وعدم قدرته على التنصّل منها لمواكبة أيام الدورة التاسعة هذه». لكن الجواب لا يُقنع أحداً، إذ كيف يُعقل أن يُقام مهرجان في ظلّ غياب مديره؟ «أعتقد أن هناك مشكلة في التوقيت. اعتدنا تنظيم الدورات السابقة في تشرين الثاني من كل عام»، كما قال حمّود، مضيفاً أنه لا يعرف سبب الإصرار على أن تُقام الدورة الجديدة في هذه الفترة: «لا بُدّ من الاعتراف بمسألة مهمّة: اشتغل محمد هاشم كثيراً لتنظيم هذه الدورة، فتابع من مقرّ إقامته عملية الاختيار وتصميم الكاتالوغ والملصقات وطباعتها، وتفاصيل الدعايات والبحث عن رعاة والتسويق. أشرف على كل شيء تقريباً». غير أن حمّود مقتنع تماماً بضرورة أن تكون هناك مؤسَّسة تدير المهرجان فعلياً، وتوزّع المسؤوليات على العاملين فيها، كي يتسنّى لكل واحد منهم أن يقوم بعمله بدقّة: «يُفترض بأحد منا أن يتابع المسائل اللوجستية أيضاً، كي تصل الأفلام المختارة في وقت باكر، يكفي لمعاينتها وتجهيزها للعرض في الموعد المحدّد لها، كي لا نقع جميعنا في مشاكل اللحظة الأخيرة». من جهتها، قالت عبير هاشم إن هناك ضغطاً تعرّض له منظِّمو هذه الدورة، «لأننا لم نشأ مزيداً من التأخير والغياب. أعتقد أن عامين اثنين كافيان للغياب، وباتت العودة ملحّة. هناك الاحتفال بالذكرى العاشرة للتأسيس، التي نسعى إلى أن تكون احتفالية وكبيرة في الدورة العاشرة المقبلة، والعودة اليوم جزءٌ أساسي من التحضيرات المتعلّقة بهذا الاحتفال».

جغرافيا مختلفة

إلى جانب هذا كلّه، توقّف الثنائي حمّود وهاشم عند مسألة الانتقال من شارع الحمرا (مسرح المدينة) إلى الأشرفية (سينما «متروبوليس/ أمبير صوفيل»): «كنا نرغب بشدّة في تنظيم الدورة الحالية في «مسرح المدينة». اضطررنا إلى اختيار «متروبوليس»، لارتفاع الأسعار في الحمرا»، كما قال حمّود. «وُضِعت شروطٌ صعبة على مهرجان يعرف كثيرون جيّداً أن ميزانيته متواضعة للغاية»، كما أشارت هاشم، مضيفة أن إدارة «متروبوليس» قدّمت تسهيلات «تتلاءم وظروفنا، فوقّعنا معها اتفاقاً جيداً، وإن خسرنا بعض المشاهدين الذين يُفضّلون شارع الحمرا». من جهته، قال حمّود إن مديرة «متروبوليس» هانيا مروّة سهّلت أموراً كثيرة: «قدّمت أشياء ممتازة على الصعيد التقني، فالصالة مجهّزة بآلات عرض بصرية وسمعية جيّدة جداً، لأنها تؤمن بالحضور الثقافي للفيلم الوثائقي، ولأن الصالة معنية بعرض أفلام مختلفة، وبتنظيم مهرجانات سينمائية. في «مسرح المدينة»، كنّا نؤمِّن كل شيء، ما أدّى إلى ارتفاع التكلفة». وردّاً على قول عبير هاشم إن الانتقال إلى «متروبوليس» جعل المهرجان «يخسر» بعض جمهوره، تساءل حمّود عمّا إذا كان غياب سنتين والانتقال إلى منطقة أخرى أثّرا سلباً، هما أيضاً، في عدد المشاهدين: «هناك أفلام محتاجة إلى مشاهدين عديدين، للتمتّع بالجماليات المهمّة التي تميّزها، شكلاً ومضموناً. انزعجتُ جداً عندما عُرضت هذه الأفلام في صالة «فارغة». شهدت الأيام الثلاثة الأولى غياباً ملحوظاً للجمهور، تمّ التعويض عنه في أيام لاحقة وحفلات متفرّقة». غير أن العدد ارتفع، قليلاً أو كثيراً، «في الحفلات الليلية»، كما قالت عبير هاشم، في حين أن حمّود، الذي رأى أن حفلات الساعة السادسة شهدت إقبالاً جيداً أيضاً، أعاد سبب ارتفاع عدد الأفلام المختارة إلى مئة فيلم في هذه الدورة، وبدء العروض اليومية في الرابعة بعد الظهر، إلى رغبة ما في جعل الجمهور يعتاد مشاهدة الأفلام نهاراً: «في أي حال، أرى أن ما فعلناه في هذه الدورة اختبارٌ لدراسة الجمهور ومعرفة مزاجه وانفعاله وتفاعله مع الأفلام. لعلها أخطاء نرتكبها اليوم، لكننا نتعلّم منها ما يفيد الدورات اللاحقة».
في جولة سريعة داخل الصالتين المخصّصتين بالمهرجان، في أيام متفرّقة من أيام الدورة التاسعة، بدا واضحاً أن أزمة الجمهور طاغية. فاللبنانيون معتادون مقولة «خاطئة»، مفادها أن الفيلم الوثائقي تلفزيونيٌ، وأن مضامينه المستلّة من الواقع معروفة لدى جمهور الشاشة الصغيرة، بفضل نشرات الأخبار والتحقيقات المصوَّرة. غير أن الانتقال الجغرافي إلى صالة أخرى متخصصة بتنظيم المهرجانات السينمائية المتفرّقة («مهرجان الفيلم اللبناني»، «أيام بيروت السينمائية»، «مهرجان السينما الأوروبية» و«مهرجانات» كوليت نوفل التي تتّخذ أسماء عدة) يُفترض به ألاّ يؤثّر سلباً، إلاّ إذا كانت العلاقة بين المهتمّين بالنشاطات السينمائية والمهرجان الوثائقي تحديداً غير سليمة، بسبب النظرة اللبنانية إلى الفيلم الوثائقي. ذلك أن المهرجانات الأخرى، باستثناء «مهرجانات» نوفل، تشهد إقبالاً متميّزاً بحسّ ثقافي ورغبة ذاتية في متابعة الجديد، لبنانياً وعربياً وأوروبياً. هناك أيضاً مسألة النمط السينمائي المعتمَد في هذه الأفلام: هل الأفلام الوثائقية «السياسية» أقدر على جذب الجمهور، كما حصل في افتتاح الدورة التاسعة مثلاً، التي شهدت عرض «الراديكالي الأميركي: محاكمات نورمان فنكلشتاين» للثنائي ديفيد ريدجن ونيكولا روسّييه؟ «لا تنسى أن هذا الشخص معروفٌ في الأوساط الثقافية والسياسية والأكاديمية اللبنانية»، كما قال حمّود، مشيراً إلى أن حفلة الافتتاح شهدت حضوراً لافتاً للانتباه، «ربما لأنها حفلة افتتاح، أو ربما لأن الشخصية المذكورة متميّزة. لا أعرف. هذه مسائل أحاول فهمها ودراستها لمعرفة حقيقة ما جرى. أودّ أن أسأل أنا أيضاً: هل المواضيع غير السياسية تعني الجمهور في لبنان، أم لا. أقصد الأفلام المعنية بشؤون اجتماعية وثقافية وإنسانية وبيئية مثلاً. لا أعرف».

مكانة الوثائقي

تعليقاً على هذه التساؤلات، أخبرني بعض المهتمّين بالفيلم والمهرجان الوثائقيين أنهم لا يكترثون بنوعية الموضوع، بقدر ما يرغبون في المشاهدة. تعنيهم الصورة وكيفية صناعة الفيلم الوثائقي، وتُشغلهم القضايا المطروحة أيضاً، وإن أبدوا اهتماماً أكبر بآلية المعالجة وشكلها غالباً: «لكن، قد يكون الأمر هكذا: فاللبنانيون منجذبون إلى السياسة أكثر من انجذابهم إلى المواضيع الأخرى»، كما قال المشاهد حسّان حامد. «لا تنس أن هناك تنويعاً مهمّاً يُقدّمها برنامج يحتوي على مئة فيلم. هذا بحدّ ذاته مهمّ، وما على المشاهدين إلاّ أن يختاروا ما يجدونه ملائماً واهتماماتهم»، كما علّق المشاهد حسام بدر الدين، الذي ردّ عليه المشاهد فارس عزيز بقوله إن التنويع يُفترَض به «أن يجذب هؤلاء المشاهدين للاطّلاع على الاختلافات المتفرّقة في المعالجة والتصوير والمونتاج مثلاً، إن اهتمّ المشاهدون أساساً بالسينما الوثائقية، وليس بالأنواع والأشكال فقط». رأى هؤلاء أن «مهرجان بيروت الدولي للأفلام الوثائقية» قدّم، في دوراته السابقة، عدداً لا بأس به من الأفلام المهمّة، التي أثارت لدى بعضهم حشرية المتابعة الدقيقة للنتاج الوثائقي، أو دفعت بعضهم الآخر إلى البحث في المواضيع الإنسانية والاجتماعية والسياسية المطروحة فيها، بعيداً عن الجدل القائم حول طبيعة المهرجان وكيفية تنظيم دوراته وآلية اشتغاله واختيار أفلامه. بهذا المعنى، يُمكن القول إن المهرجان مارس دوراً تحريضياً على مستوى الاهتمام بالفيلم الوثائقي أولاً، وبالقضايا المطروحة ثانياً. وبهذا المعنى أيضاً، يُفترض بالقيّمين على المهرجان الوثائقي البيروتي هذا أن ينتبهوا إلى أناس شغوفين بما يفعلونه، ما يُرتّب عليهم مسؤوليات كبيرة، منها ضرورة البحث الجدّي عن السبل كلّها، الكفيلة بتطوير المهرجان وبلورة آفاقه الإبداعية والجماهيرية. فعلى الرغم من التساؤلات المتعلّقة بكواليس «صناعة» هذا المهرجان، هناك أناس يسعون إليه، ويناقشون أفلامه، ويبحثون عن المزيد، وإن كان عددهم قليلاً.
لكن، ماذا عن اختيار الأفلام في دورة هذا العام؟ قال علي حمّود إن الأهمّ في المسألة كلّها كامنٌ في ضرورة عدم حصر المُشاهدة والاختيار بشخص واحد فقط: «صحيح أني شاهدت الغالبية الساحقة من الأفلام المُرسَلة إلينا، لكني ارتأيت التعاون مع شخصين اثنين لديهما هواجس وخلفيات سينمائية وثقافية مختلفة، هما هاغوب ديرغوغاسيان وإيلي أبو سمرا، لأن لكل واحد منهما مزاجاً خاصّاً به يُمكنه إغناء الاختيار والبرمجة بتنويعات لا يستطيع تقديمها شخص واحد. لا تنسَ أن هذه المسألة كانت موجودة في الدورات السابقة، إذ كانت لجنة المُشاهدة والاختيار مؤلّفة من محمد هاشم ورين متري وأنا. اليوم، تبدّلت الأسماء وظلّ هاجس التنويع أساسياً. هناك أفلام اخترتها أنا، لكن أثناء المناقشة مع الصديقين ديرغوغاسيان وأبو سمرا، اقتنعت بوجهة نظر مخالفة لرأيي، فتمّ استبعادها. حصل العكس أيضاً في بعض الأحيان». أضاف حمّود أن لجنة كهذه يجب أن تتوسّع وتنشط في أكثر من اتجاه: «لا يكفي أن يُرسل المخرجون أفلامهم إلينا، لأن الأهمّ كامنٌ في ضرورة حضور عاملين في «مؤسّسة» المهرجان، أو المدير الفني على الأقل، مهرجانات سينمائية وثائقية، لمشاهدة مختلفة ومتابعة أدقّ، ولإقامة تواصل مباشر مع السينمائيين والمعنيين. هذا يمنح المهرجان حضوراً أفضل وأقوى في المحافل السينمائية العربية والدولية». وعلّق حمّود على مسألة أخرى: «يجب تأسيس سوق سينمائية للفيلم الوثائقي، كي يُستقطب العاملون في هذا المجال، وكي يُروَّج للأفلام في المكان الصحيح. هذه مسألة محتاجة إلى تحضيرات كثيرة. ربما يستطيع المهرجان تنظيمها في الدورة المقبلة».

٢٠٠٩/١٠/٠٥

مهرجان بيروت الوثائقي يختتم دورته التاسعة
السياسة حاضرة و لو من دون اسمها
كتب نديم جرجورة في صحيفة السفير :


انتهت الدورة التاسعة لـ «مهرجان بيروت الدولي للأفلام الوثائقية» مساء أمس الأربعاء. وزّعت الجوائز على مخرجي الأفلام الفائزة، التي اختارتها لجنة تحكيم مؤلّفة من الثلاثي مرسيل برسودير (أحد المؤسِّسين الاثنين للمهرجان، إلى جانب مديره محمد هاشم) وحبيب حمّود وكيفن توليس (مخرج «سيارة مفخّخة»، المُشارك في الدورة الأخيرة هذه). أثيرت تساؤلات شتّى حول العودة المفاجئة والبرمجة التي ضمّت مئة فيلم، كتعويض ما عن الغياب غير المفهوم وغير المبرَّر للمهرجان في العامين الفائتين. تنوّعت الاختيارات. استقطبت الأفلام مشاهدين مختلفي الميول الثقافية والاهتمامات الفنية. عالج المخرجون قضايا سياسية وإنسانية واجتماعية وبيئية متنوّعة. تعثّرت الأيام الأولى على مستوى الحضور الجماهيري، لكن أياماً أخرى شهدت إقبالاّ جيّداً إلى حدّ ما، أو بالأحرى قياساً إلى مكانة الفيلم الوثائقي في المشهد اللبناني، وإلى علاقة هذا النوع السينمائي بالمشاهدين.
تردّد أن «جهاز الرقابة على المصنّفات الفنية» في «المديرية العامة للأمن العام» رفضت السماح بعرض فيلمي «سيارة مفخّخة» و«عندما تكلّم الشعب، الجزء الثالث» للمخرج الكويتي عامر الزهير. قدّم الأول تأريخاً بصرياً للسيارات المفخّخة، التي شكّلت السلاح الإرهابي الأخطر لغاية اليوم، مروراً بالأحداث الأمنية والسياسية الأكثر استخداماً لهذا النوع من العمليات الإرهابية والاغتيالات العنيفة. اعتبر القيّمون على «الأخلاق الحميدة» في هذا البلد المُستباح بجوانبه كلّها ومستويات العيش المتفرّقة، أن فيلماً كهذا ينال من سمعة لبنان، ويضعه في مصاف الدول الإرهابية، ويشوّه نضارة الثلوج الهاطلة على جباله والمقيمة في نصاعة العلاقات الداخلية بين اللبنانيين، بامتداداتها الإقليمية والدولية. غاص الثاني في الفساد السياسي والانتخابي في دولة الكويت. حلّل الواقع المزري. ناقش المسائل بشفافية. أتاح للشباب الذين يقاومون هذا الفساد الانتخابي وشراء الأصوات فرصة التحدّث عن هذه المشاكل. أراد المخرج أن يكشف وجهاً من وجوه التخبّط العنيف في الصراعات غير المشروعة داخل بلده. لكن جهاز الرقابة اللبنانية نفسه وجد الفيلم اعتداءً صارخاً على دولة شقيقة، وتشويهاً فظيعاً لسمعتها الديموقراطية. فاز الفيلم المذكور بجائزة لجنة التحكيم الخاصّة بالدورة الثانية لـ «مهرجان الخليج السينمائي»، التي أقيمت في دبي قبل أشهر قليلة. جهاز الرقابة المحلية أكثر وعياً من أي دولة خليجية أخرى بمصالح الخليجيين. اعتاد أن يكافح كل ما من شأنه الإساءة إلى لبنان، فاكتسب خبرة في تحصين سمعة البلد من أي اعتداء ثقافي وفني وإنساني ومدني، ما جعله يختبر آليات تعطيل أي صوت ديموقراطي حرّ، يفكّك الواقع ويُحلّل الوقائع انطلاقاً من انتمائه الوطني أولاً وأساساً. مع هذا، عُرض الفيلمان في إطار جماهيري عادي. إنها محاولة إضافية لمواجهة التعنّت الرسمي، المرتكز على قواعد بالية وقوانين يُفترض بها أن تُلغى لمصلحة قوانين عصرية وحديثة.
سياسة
ليست السياسة وحدها معرّضة للمساءلة الرقابية. أو محرّضة لنقاش نقدي وسجال جماهيري. هناك أفلام متفرّقة حظيت بمشاهدة سليمة، وإن كان عدد المشاهدين قليلاً. غير أن السياسة كامنة في تفاصيل العيش اليومي كلّها. لا يُمكن للمرء أن يعاين واقعاً عربياً ما، من دون أن تكون السياسة حاضرة. فالأزمات الاجتماعية والتربوية والحياتية والمعيشية وغيرها مرتبطة، بشكل أو بآخر، بالسياسة وأنظمتها وكيفية إقامة الحكم على الناس. والسياسة ليست مجرّد بحث في أعمال سياسيين. إنها فاعلة في أنظمة العيش والتربية والاجتماع والاقتصاد والثقافة أيضاً. لذا، فإن فيلماً بعنوان «فُلّة، امرأة من دمشق» (إنتاج دانماركي سوري مشترك، 2008) لديانا الجيرودي يُعتبر «سياسياً»، لأنه حلّل واقع العيش الاجتماعي للمرأة السورية/ العربية في مجتمع محافظ وتقليدي، من خلال معاينته ظاهرة «فُلّة»، اللعبة المقابلة لـ «باربي»، الناشئة في وسط اجتماعي وتربوي وثقافي عربي إسلامي متزمّت. و«من مخلّفات الحرب» (لبنان/ الولايات المتحدّة الأميركية، 2009) لجواد متني، يندرج في سياق سياسي ما، على الرغم من اهتمامه المباشر بالعاملين في شركات وجمعيات ومؤسّسات دولية معنية بتفكيك القنابل العنقودية الإسرائيلية، المرمية في جنوب لبنان قبيل انتهاء الحرب الدموية صيف العام 2006. فالحالة الاجتماعية والعلاقات الإنسانية والتفاصيل الاقتصادية وأنماط العيش التي صوّرها الفيلم، بالإضافة إلى آليات العمل في هذا المجال، والبحث عن القنابل وتفجير بعضها ومقتل أناس أبرياء جرّاء انفجارها بهم، أمور مساقة في إطار سياسي مبطّن، لأنه قريبٌ من، أو بالأحرى لأنه في قلب الصراع اللبناني الإسرائيلي، بجوانبه المختلفة. في الإطار نفسه، هناك مثلٌ ثالث (والأمثلة كثيرة)، متمثّل بالفيلم اللبناني «كاوبوي بيروت» (إنتاج فرنسي لبناني مشترك، 2009) لداليا فتح الله: اللقاء بوالد المخرجة، المنجذب منذ شبابه إلى العروبة، مفتوح على أسئلة العلاقات الشبابية اللبنانية الآنية بهذا الفكر العروبي وبالناصرية، كما بالولايات المتحدّة الأميركية والحلم الأميركي.
أفلام
ارتكزت الأهمية الإنسانية في «فلّة، امرأة من دمشق» على قدرة المخرجة الجيرودي على تفكيك بيئة اجتماعية متكاملة، بهدوء وشفافية. ظهرت الجمالية الفنية في «من مخلّفات الحرب» في براعة المخرج متني في اشتغاله على التوليف، بعد تصويره كمّاً لا بأس به من المقابلات والمشاهد، بهدف إظهار حالات متفرّقة ومتكاملة في رسمها ملامح حياتية خاصّة بالجنوب اللبناني، وبهدف مقاربة غير مباشرة للعنف الإسرائيلي ووحشيته. انحصر الهمّ الإبداعي في «كاوبوي بيروت» في مسعى المخرجة فتح الله إلى فهم العلاقة التناقضية والصدامية بين شباب لبنانيين والمحيط السياسي والثقافي والإنساني المقيمين فيه. اختارت ديانا الجيرودي امرأة واحدة كي تحفر عميقاً في مجتمع مائل إلى خصوصيته التقليدية المحافظة والصارمة، فقدّمت شهادة بصرية عن مناخ قاس فشل في منع المرأة المحجّبة من ممارسة قدر كبير من حريتها الفردية. بدا جواد متني مهموماً، في المرتبة الأولى، بتقديم صورة واضحة عن العاملين في إحدى أخطر المهن (تفكيك القنابل العنقودية)، لكن فيلمه هذا انفلش على مساحة انسانية واسعة، وعلى أزمة العيش اللبناني وسط حقول القتل الدائمة. تناولت داليا فتح الله مسألة حسّاسة في الوجدانين الفردي والجماعي في لبنان، من خلال نماذج منتمية إلى جيلين مختلفين، كي تقرأ الحالة الآنية المرتبكة. لكن فيلمها الوثائقي الثاني هذا (فيلمها الأول «مبروك التحرير»، انطلق من لحظة الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان في العام 2000، كي يروي وقائع العيش في المرحلة اللاحقة لهذا الانتصار اللبناني) بدا ضائعاً بين ثرثرة تحليلية لا تخلو من بعض التصنّع لدى جيل من الشباب، وإطالة بصرية لا طائل لها في نصّ سينمائي محتاج إلى تكثيف درامي بدلاً من طرح عناوين كثيرة.
في الجانب النقيض لهذه الأنماط/ النماذج، المستلّة من لائحة الأفلام المئة المختارة للمشاركة في المسابقتين الرسميتين العربية والدولية الخاصّتين بالدورة التاسعة، هناك «محمود درويش، ونحن نحبّ الحياة» (فرنسا، 2008) لجان آسيلماير و«طعم الثورة» (فلسطين، 2008) لبثينة خوري. فيلمان تلفزيونيان بامتياز، شكلاً بصرياً ومعالجة فنية. فيلمان يسردان معلومات، ويحاوران أناساً معنيين بالموضوعين، ولا يخرجان من التبسيط الشديد الحضور فيهما. قدّم الأول مقتطفات من حوار طويل مع الشاعر الفلسطيني الراحل، إلى جانب قراءات مقتضبة باللغة الفرنسية من مقاطع مأخوذة من قصائده، في إطار شكلي عادي للغاية. تابع الثاني تفاصيل متفرّقة عن صناعة البيرة في الطيبة، وعن عائلة المخرجة العائدة إلى فلسطين لتحقيق هذا المشروع. ظلّ الأول مستوياً في سياق الريبورتاج التلفزيوني المدعّم بصُوَر ومحاولات بصرية مفبركة. عجز الثاني عن ربط العودة بمفهوم العيش، وعن الخروج من الدائرة الضيّقة للتفاصيل الصناعية والخبريات الحياتية إلى رحاب عالم أوسع، مرتبط بالتناقضات المختلفة في المجتمع الفلسطيني.
النتـائـج
في ختام الدورة التاسعة هذه، أُعلنت النتائج التالية: في المسابقة العربية، فاز «ذاكرة مثقوبة» لساندرا ماضي بجائزة أفضل فيلم طويل و«ذاكرة وجذور» لفاروق داود بجائزة أفضل فيلم متوسط، و«رب البيت» لأَنَس بلاوي بجائزة أفضل فيلم قصير. وفي المسابقة الدولية، فاز «بلال» لسوراف سارانجي بجائزة أفضل فيلم طويل، و«الرجل الذي عبر الصحراء» لكوربت ماتيوس بجائزة أفضل فيلم متوسط، و«الحياة المنعزلة للرافعات» لإيفا ويبر بجائزة أفضل فيلم قصير. ونال «إيجاد المنزل» لكريستوف دالي تنويهاً من لجنة التحكيم.