٢٠٠٩/٠٤/١٢

المصارع و عبقرية ميكي رورك



يبدأ شريط " المصارع" (The Wrestler. 2008) بعرض صور لايام زاهية للمصارع راندي الملقب ب "The Ram " الذي كان لامعاً أثناء الثمانينات كبطل المصارعة الحرة بدون منازع ، و عند انتهاء تلك الافتتاحية نتابع راندي يمشي مديراً ظهره لنا و قد بدا عليه الكبر ، يتفق راندي مع أحد المصارعين حول تمثيلية المصارعة لاحداث أكبر قدر من الحماسة لدي الجمهور ، ثم نتابعه يعود الى منزله ليجده موصداً بالقفل و نعلم انه قد تأخر عن دفع الايجار لان المبلغ الذي يتقاضاه لم يعد كافياً لتسديد حاجياته. ولان المصارعة لم تعد تدر ربحاً سريعاً ، يعمد راندي خلال الاسبوع الى العمل في أحد المتاجر في نقل البظائع وسط سخرية مديره منه.

راندي رجل محطم يعاني الوحدة الاليمة و لايجد نفسه قادراً على فعل أي شيء أخر سوى المصارعة، كعشق حياته . بعد مباراة قاسية ينال الزجاج المتحطم، الحديد، و المسامير من جسده المدمى . جسد مليىء بالنتوئات و أدوية المقويات و ترهل الايام ، الجسد متعة الجماهير المتعطشة للعنف و غزارة الدماء و تراطم الاجسدة فوق الحلبة ( لعل حرفية الكاتب شاك باللنكي -Chuck Palahniuk- في وصف تحطم الاجسدة في روايته "نادي المصارعة" (Fight Club)، المقتبسة لفيلم ديفيد فنشر تحت نفس العنوان، يعد خير تعبير عن الازمة التي يعانيها الرجل جسدياً و عاطفياً في الوقت المعاصر ) ، ينهار راندي و ينقل الى المستشفى للعلاج ، و تأتي نصيحة الدكتور بالابتعاد عن كل مجهود قد يظر بقلبه الضعيف . لكن هل أوجاع القلب ناتجة عن كل ذلك ؟ أم أن الآلم النفسية لراندي أكثر ايلاماً ؟

راندي يتردد على نادي ليلي لراقصات الستربتيز ، و تراه منجذباً ناحية كاسيدي (ماريسا تومي) ، راقصة الستربتيز ، لكن كاسيدي غير قادرة على الاخلال بعقدها لناحية العلاقة مع زبائنها ، لكن راندي يستطيع اختراق هذا الحاجز للوصول الى الخروج معها لكن ذلك لا يعمر طويلاً، و من ناحية أخرى يحاول راندي اعادة العلاقة المنقطعة لسنوات مع ابنته ستيفاني (ايفان رايتشل وود) التي لا تتخيله بقربها، و يحاول ارضائها و استمالتها لجانبه...

المخرج دارين أرنوفسكي ، صاحب العديد من الافلام المصبوغة بطابع حزين و مأساوي ينسج حكايات لشخصيات معقدة و متخمة بالجراح سواءاً في باي (Pi. 1998) ، انتقالاً الى اختبار القدرة البشرية على تحمل اعباء الدمار المتولد عن تعاطي المخدرات و تأثيرها على حياة أربعة أشخاص في " قداس من أجل حلم" (Requiem for a Dream. 2000) ، و قصص الحب و الموت و الروحانيات في "النافورة" (The Fountain. 2006)، يستمد أرنوفسكي قصصه منها ليولد تلك الشخصية التي يأديها ميكي رورك ببراعة متناهية و كأن الدور اسقاط حتمي لذلك الممثل الذي سطع نجمه في الربع الاول من الثمانينيات في عدة أفلام ، و هو الاتي الى السينما كملاكم محترف ، لكن سلوكه و تصرفاته لم تجلب له سوى المتاعب مع المنتجين ، و سرعان ما خفت نجمه، الى أن عاد مجدداً مع المخرج روبرت رودريغاس في " مدينة الاثم " (Sin City. 2005). علماً أن ما أن تبادرت الى مسامعه فكرة الفيلم حتى قبل الدور على مضض و من دون أن يتقاضى أجراً مقابله . و هذا الدور رشحه للاوسكار كأفضل ممثل لكن الجائزة ذهبت الى شان بين و قد حصل على عدة جوائز في عدة مهرجانات أخرى كأفضل ممثل و ماريسا تومي كأفضل ممثلة مساعدة.


ميكي رورك يجسد شخصية راندي بشكل عبقري ، يدخل في صلب الشخصية و يخرج بجسد يلهث خلف العيش الكريم. كمشاهد تتألم لحاله و يعتصر قلبك حزناً عندما ترى دموعه تتكسر على محياه أمام ابنته على شاطيء مدينة نيو جرسي الباردة ، تشعر بدقات قلبه و تغدو خلفه يتنفس و تحس بثقله - تصميم الصوت متقن جيداً من قبل مصمم الصوت، براين اميريك، بحيث يأتي الى مسامعك ثقل لهاثه بشكل واضح .
الكاميرة المحمولة تأخد اللقطات باسلوب الفيلم الوثائقي و لا تبرح تغادره . تتابع خطواته من حلبة المصارعة الى بيته الى عمله في المتجر حيث يخدم الزبائن و الى النادي الليلي حيث يقظي وقته.

راندي يذهب الى تجمع المصارعين القدامى ليقدم تواقيعه الى من تبقى من المعجبين ، و هناك يرى مدى قسوة الحياة على رفاقه المرهقين و يتبادر الى ذهنه انه لا يريد أن يغدو كحالهم و أن عليه مقارعة القدر. هذه اللحظة معبرة بشكل لافت و تشي بالكثير لجيل مرهق أعيته الايام بقساوتها و أو صلته الى ما وصلت اليه اليوم من تكسر و خيبات و أوجاع نفسية و جسدية.

الموسيقى المواكبة للفيلم تشحن الاجواء بمزيد من السوداوية و لعل الفضل يعود لاداء الموسيقي البريطاني كلينت مانسيل (Clint Mansell) ، الذي عمل سابقاً مع أرنوفسكي في وضع الموسيقى الرائعة لفيلم "قداس من أجل حلم" ، في تسخير الموسيقى كخلفية للتابع الاحداث و اضفاء ايقاع بسيط و ملائم لاجواء الفيلم.

ومن المؤكد أن المخرج دارين أرنوفسكي قد عزز رصيده الفني رغم قلة ميزانية "المصارع" ، بعد فشل فيلمه السابق "النافورة" ، و استطاع أن يصل بقوة الى قلوب المشاهدين عبر ميكي رورك في و احد من أجمل أدواره في فيلم من الصعب تخيله من دونه.



ليست هناك تعليقات: