٢٠٠٩/٠٢/٢٧

ريها ارديم و أيقونة الازمنة و الرياح




ماذا يمكن القول عن المخرج التركي ريها إرديم في فيلمه " أزمان و رياح " ؟ أولا ً، هو من جيل النهضة السينمائية الفنية للمخرجين الشباب في تركيا أمثال نوري بيلج سيلان (" مسافة " أو 'Uzak و " أجواء ") و زيمي ديميركبوز ( ثلاثية " حكايات الظلام" ، " مصير" ، " اعتراف" و " غرفة الانتظار" ) و فاتح أكن (المولود في هامبورغ الالمانية وله العديد من الاعمال منها " سنسين ... أنتِ الشخص" ،
" صدمة قصيرة قوية"، " رأساً على عقب" ، " عبور الجسر: صوت تركيا" ، " روح المطبخ "، و حديثاً " حافة السماء" ) و يسيم أوستاغلو ( عن فيلمها "رحلة الى الشمس ") و غيرهم الكثير ... يشقون طريقهم رويداً رويداً لتقديم كل ما هو جديد. ثانياً، كلفة الانتاج لم تعد عائقاً أمام مخرجين مصريين على انجاز آعمالهم بثقة متناهية و بطرح جدي و جريء . و ثالثاً ، التناغم المتعزز ما بين المخرج و أفلامه من جهة و الجمهور المحلي و العالمي من جهة أخرى.

يبقى أن تتخيل ريها إرديم و فيلمه " أزمان و رياح " ( " بيس كفيت " بالتركي ) قبل أن تشاهده : أن تتخيل ذاك الشاب المندفع و الهاديء في نفس الوقت، يستفيق يوماً من نومه باكراً، لان فكرةً ما مازالت تراوده منذ أمد و انه قد آن البدأ بتنفيذها. يجمع أغراضه على مضض و يغادر الى تلك القرية النائية المتراخية بنعومة على الجبال العالية ، يستقبله أهل القرية و يروي لهم فكرته ، يتشاورون فيما بينهم ويأتون له بالموافقة. يعايش يومياتهم و يكتب عنها و يمضي وقتاً طويلاً متجولاً بين أزقة القرية ، داخل بيوتها و بين أهلها الطيبين ، معيراً سمعه الى الصغار والكبار ليسمع قصصهم القصيرة التي يزداد منها لتركيب نصه ، يتجول برفقتهم بين السفوح و الهضاب، و بعد الانتهاء يعود الى كتابة نص السيناريو . يتوقف قليلاً لمزيد من الاطلاع و يعيش تلك اللحظات الهادئة ما بين تحولات الليل و النهار ، و من ثم يعود مجدداً الى إفراغ ما جمعه على كمبيوتره المحمول و اعادة صياغة بعض اللحظات من هنا و هناك الى أن ينتهي من النص. يعود الى المدينة و يجتمع بمنتجه عمر أتاي لاطلاعه على النص و يمهله يومين أو ثلاثة حتى يتسنى له قرائته. من ثم يتصل به عمر، المليىء ثقةً بأعماله، معلناً اعجابه الشديد بالسيناريو و عن امكانية المباشرة عما قريب بتصويره ، و هنا يولد فيلم " أزمان و رياح " بتوقيع ريها ارديم.

في جعبة المخرج ريها أرديم ثلاثة أفلام أولهم " يا قمر " الذي انتج سنة ١٩٨٩ إثر عودته من باريس حيث أنهى دراسته العليا في السينما و الفن الحديث حين انتقل اليها بعيد دراسة مادة التاريخ في جامعة بوغازيزي في اسطنبول . تلاه باخراج فيلمه الثاني " الركض خلف المال " لسنة ١٩٩٩ و الذي ترشح لجائزة الاوسكار آنذاك. " أنا خائف يا أمي " تلاه سنة ٢٠٠٤ وصولاً الى " أزمان و رياح " (٢٠٠٧) و السنة الماضية في" شروقي الوحيد" (٢٠٠٨).

" أزمان ورياح " لا يشبه غيره من الافلام التي تتناول حياة الريف بل هو قائم بحد ذاته ، بل يمكن تشبيهه بشجرة الصفصاف الوحيدة في ذالك الوادي المشمس التي يلجىء اليها الرعاة و الصبية للاحتماء بظلالها في يوم صيفي حار. يقتبس الفيلم يوميات ثلاثة صبية بالغين هم : عمر و يعقوب و يلديز . الشخصية المحورية في الفيلم هو عمر الذي لا يبدو متناغماً اطلاقاً مع والده، امام مسجد القرية ، محاولاً قتله بطرق مختلفة. ثاني شخصية هي ليعقوب المتيم بحب معلمته للغة الانكليزية ، أما يلديز ، فهي فتاة أبيها المدللة و الذي يحبها و يتوقع منها مساعدة زوجته بالاهتمام بأخيها الرضيع.


تركيبة العائلة التقليدية في ذلك الريف لا تشذ عن السلبية في الطريقة البطريراكية في تعامل الاب مع ابنه و كيف بدورها تنتقل من جيل الى جيل . لكن اختيار هؤلاء الشخصيات الثلاثة لنسج يومياتهم لا يأتي من عبث : فهم كالمتمردين على هذه العادات والتقاليد التي تقيدهم، لكن تمردهم يأتي بصمت و من دون اثارة تُذكر، فتصبح الطبيعة ملجئهم الوحيد ليفرغوا غضبهم و ليخلدوا في أحضانها في سباتٍ عميق يبدون فيه كمن يحاول الانتقال الى عالم آخر بعيد عن واقعهم.

الازمنة


العامل الزمني في الفيلم مقسم حسب تراتبية الصلوات الخمسة ، ابتدائاً من الفجر و مرور الوقت حتى الصلوات التالية. هذه التراتبية الزمنية في حركات عقارب الساعة تدل على الحياة البعيدة عن صخب المدينة ، تلك اللحظات التي تمر ببطىء في الريف الجبلي الذي يستيقظ قاطنيه باكراً للانصراف الى أعمالهم اليومية و عند حلول الليل يخلدون الى النوم غير عابئين بالسهر الى ساعات متأخرة من الليل. و هذه الدورة الزمنية تعيد الكرة من جديد من حيث تصرفات الافراد فيما بينهم. فذاك الاب الذي يحط من مقدار ابنه ويوبخه بشدة أمام بقية إخوته، يعاود من جديد فرض تصلفه. محاولات عمر للتخلص من والده تتكرر تباعاً الى محاولته التملص من الظهور في صورة تجمع أفراد العائلة، و كذلك الشىء مع يعقوب الذي يشاهد أبيه يُوبّخ من قبل جده و ينصرف لتلصص على مُعِلمته ؛ اعتناء يلديز بأخيها و حبها للطبيعة يتجدد تباعاً. هذه الشرائح المتشكلة من الايقاع اليومي للحياة غير مبنية لصناعة سرد روائي لمجريات الاحداث بل تغرف من تقاسيم الوقت الزمني لتشكيل مجتزئات أو شرائح مكتملة بحد ذاتها من شظف الحياة.

الرياح

حين يلجىء الصبية الى تلة الجبل لتأمل الايقاع الهادىء لعوامل الطبيعة من حولهم ، يلفهم الريح المتشكل ببطيء ويستجيب الى أفكارهم ، يرد بترددات صوتية ليلاً ليوقضهم من نومهم و يحملهم نهاراً بعيداً عن همومهم ليٌغرقهم بأحلام اليقظة بين أوراق الشجر و الاغصان و مكونات الطبيعة . هي الرياح نفسها التي تتشكل من حول ذاك الرجل الآتي من المجهول الى تلك القرية النائية و تحمله بعيداً الى هضبة الجبل بحثاً عن سيغنل لهاتفه النقال في فيلم "سوف تحملنا الرياح" ( ١٩٩٩) - لعنوان قصيدة الشاعرة/السينمائية الايرانية فاروغ فرخزاده - للمخرج عباس كيروستامي. تتبعهم الريح في خطواتهم كما الكاميرة المحمولة التي تتبعهم من الخلف حين يعبروا بين الازقة و بين الاحراش ،الذي يعيد الى الاذهان تقنية المخرج غس فان سانت في فيلم "الفيل" (٢٠٠٣) حين يتبع خطوات الشاب الهاديء داخل و خارج أسوار المدرسة. وتدور الكاميرة بشكل دائري من فوقهم (باستعمال محترف لتقنية الكاميرة المثبتة على "الكرين " أو العمود الطويل المتحرك والذي يتحكم به المصور ومساعده خلف شاشة مثبتة في مقدمته) حين يستلقون على حافة الجبل في استسلام هاديء لافكارهم لا يقرأه سوى الريح الهادر.


يبتعد بدوره المخرج المحترف ريها ارديم عن اثارة المشاعر العاطفية التي تنتمي الى سينما اثارة المشاعر، التي يقع فيها العديد من المخرجين وكتاب السيناريو، فيعتمد على الخلاص الذي يبقى ضمن السيكولوجية للفرد من دون تفاعلات أو اثارة لا جدوى منها. الفيلم هاديء و شاعري في ترك الصورة تعبر بشكل طلقائي عن معاناة الشخصيات و غير متكلف في صناعة الكثير من الكلام و يبقى فيما قّل و دل.

بعد عام من الانتهاء من التصوير ( تصوير : فلورانت هيري) و التوليف ، عاد ريها ارديم الى القرية و هذه المرة لعرض الفيلم بين ابنائها. حينها تشكل القمر فوق ناصية الشاشة في انتظار ردة فعلهم على الفيلم ، ارتبك ارديم في البداية لكن شعور بالطمأنينة تسرب الى خلجه لاحقاً عندما لاق ترحيبهم الا من مشهد طفيف. ( هذا السيناريو الاخير منقول عن حوار أجري مع المخرج نقل تجربته فيها )

ليست هناك تعليقات: