٢٠٠٩/٠٢/٢٢

آنا و ذاكرة المكان في " روح خلية النحل" لفيكتور إريس



من منا لم تأسره لقطةٍ ما في فيلم أو شخصيةٍ ما لبطل ٍ ما ، وحشٌ ما- نوسفراتو (المقتبس عن رواية برام ستوكر " دراكولا") بقسوة ملامحه عندما نهض من قبره، أقلق مضاجعنا عندما خرج الى العلن في عام ١٩٢٢ عز أيام الفيلم الصامت ؟ أو كرهنا لسفاحٍ أو قاتل مأجور ؟ و كيف أن تلك الشخصيات ، بغموضها و قوة حضورها ، شغلتنا عن التفكير بيومياتنا المملة و التتوق لاكتشاف عالمها.

El espíritu de la colmena " روح خلية النحل " (١٩٧٣) للمخرج الاسباني فيكتور إريس (سبق أن أشرت الى مشاركته بفيلم قصير مع مجموعة من المخرجين في " عشرة دقائق لاحقاً: البوق " ) ، قد يكون من تلك الأفلام التي تنقل ذاك الشغف الذي ينتاب الفرد منذ صغره حين تجذبه قوة شخصية ظهرت على الشاشة الكبيرة ، فتأسره و تبقى محفورة في ذاكرته.


تدور أحداث " روح خلية النحل " في أجواء الاربيعينيات ما بعد انتهاء الحرب الاهلية الاسبانية الطاحنة حيث أحد القرى الاسبانية النائية لاقليم كاستيلا الشمالي، لكن هذه الحقبة التاريخية لا تُشغل بال المخرج بقدر ما يشغله حيز الفراغ الذي تعيشه شخصياته ضمن الفيلم
(علماً أن الفيلم تم تصويره أثناء قرب نهاية حكم فرانكو الفاشي ). الشخصية المحورية هي آنا ، الفتاة التي لا تتجاوز السادسة من العمر، تعيش مع والديها و أختها ، إيزابيل ، التي تكبرها سناً ، والتي تُحب أن تلاعبها بحذاقة.
في البداية يكون الفرح بين الاطفال مع قدوم سينما متنقلة الى قريتهم لعرض فيلم فرانكشتين و بحضور كلا الاختين آنا و إيزابيل . آنا يُسّحرها الفيلم و يترك بداخلها نوعاً من الغموض الذي يثير فضولها ، فتسئل أختها : " لماذا قتلها (إشارة الى الفتاة) ؟ و لماذا قتلوه بعد ذلك ؟ "، تجيبها إيزابيل بأن الوحش لم يقتُل الفتاة و أنه مازال حياً ، فالافلام عادةً كذلك . و تتابع إيسابيل، أنه ( فرانكشتين) كالروح ما أن تغمضي عيناكي حتى يأتي(الحضور الجسدي داخل الذاكرة ) و يهمس لك :" هذا أنا ، يا آنا " . هذه الكلمات تترك الاثر الكبير على محياها.
شغف آنا بالقصة يزداد عندما تُخبرها إيزابيل بوجود بيت فرانكشتين خارج القرية ، فتذهب آنا عدة مرات دون أية جدوى في العثور عليه
فتجد آثار لأقدام كبيرة الحجم...

هذه الرواية ، البسيطة في الاسلوب و السرد، لشغف طفلة بشخصية فرانكشتين الذي بدا يوماً كبير الحجم على شاشة سينما نقالة، هو محور الفيلم الذي يعتمد على القليل من الاحداث و خلفيات لمشاهد تروي تفاصيل تلك الحقبة بكل بساطة و جمالية متناهية.

شخصيات الفيلم لا تتكلم الا فيما ندر ، فهم يعيشون عزلة يفرضها المحيط ، موجدين الاسباب الكافية لاشغال أنفسهم في يومياتهم - الاب منشغل بشغف في تربية النحل و كل ما كتب عنها ، فيما تُشّغل الام نفسها بكتابة رسائل الى محبوبها البعيد، و الذي لا نعرف عنه شيئاً خلال الفيلم، أما الفتيات فيبحثن عن تلك الصورة المتخيلة لفرانكشتين و عن إمكانية تواجده على أطراف القرية . هذا الغموض الداخلى لأفراد العائلة لا يُخّبر الكثير عنهم و عن علاقتهم بمحيطهم ولعله يكون من أحد النقاط السياسية للفيلم .

الجمالية المشهدية و المتناهية في الشاعرية للمساحات البرية ، لعذوبة الطفولة و الطبيعة ، و مشاهد الليل و لحظات الصمت ، جميعها تتوالى على إيقاع الموسيقى الهادئة التي تسبر من أغوار المحيط و ترتد عليه من جديد ، كالاحساس بالوحدة الذي ينتاب الفرد في أحلك الاوقات و لا يملك أن يُعبر عنه. الصمت الذي يغلف الحياة الهادئة يتناسق مع الصوت القادم من خارج الاطار - سواءاً في صوت القطار ، نبيح الكلاب أو غيرها من الاصوات الخارجية - لعالم خارجي يلفه المجهول . أما علاقة الصوت و الصورة المتماهية متأثرة كما يبدو بالسينما الصامتة
كتلك الالمانية التعبيرية لمورنو في رائعته " نوسفوراتو" أو" كابين الدكتور كالغيري" ل روبرت واين ( أو حتى الناطقة منها كما في فيلم " فرانكشتين " (١٩٣١) ل جيمس وال).

والذي شاهد أعمال المخرج الامريكي تيرنس مالك و خصوصاً " أرض السيئين " و " أيام السماء" ،الرائعين ، يمكنه تحديد أوجه الشبه في أعمال فيكتور إريس . فكلاهما أنجزا القليل من الاعمال بين فترات زمنية طويلة بعد إنقطاع طويل . أعمالهما تعبير حسي و مفعم بالشاعرية المشهدية ، القوة الجمالية ، و تلك الشخصيات الهائمة ، من دون استقرار داخلى، تجول في أسقاع الارض ، أعمال تغرُف من الفلسفة المتجذرة في ثنايا الاحداث المثقلة بعبق الصورة ومعانيها. السينماتوغرافي مبهرة للبصر . يستفيد منها المخرج فيتعمق بأخذ الشخصيات بجدية ليبدو كأنهم من خلال النوافذ و الابواب معزولين ضمن الاطار داخل الاطار كتعبر عن العزلة و الحاجة الماسة للتعبير عن ما يدور في خلجهم. إيجاز الحدث ضمن الاطار المشهدي صنيعه الكادر الثابت و عندما تتحرك الكاميرة قليلاً فهي لمقلاة الممثلين في حركتهم. ففي قرائتي لاحد المقالات علمّتُ أن مدير التصوير ، لويس كوادرادو ، قد فقد بصره خلال تصوير الفيلم و أنه إستعان بمساعدين لينقل اليهم تعليماته. هذا ان دل على شيء فإنه يدل على الارادة الجامحة لخلق مشهدية متناهية في الجمال رغم كل الصعاب، وهذا ما ظهر فعلياً في الفيلم ، الذي يُصنف كواحد من الاعمال الاكثر جاذبية مشهدياً في تاريخ السينما.

من الاعمال المنجزة ل فيكتور إريس :

El espíritu de la colmena (روح خلية النحل) ١٩٧٣

El Sur ( الجنوب ) ١٩٨٣

El Sol Del Membrillo ( شمس شجرة السفرجل ) ١٩٩٢

ُTen Minutes Older: The Trumpet (٢٠٠٢)

La Morte Rouge ( الموت الاحمر) ٢٠٠٦


** للاطلاع عن كثب على نسخة ال DVD للفيلم ، يمكنكم زيارة هذا الموقع المتخصص في تلك النوعية من الافلام.









ليست هناك تعليقات: