٢٠١٠/٠١/١٦

جيري



بين الناس العاديين الذين التقيهم من سبق و شاهد "جيري " (Gerry) ، فيلم المخرج المخضرم غاس فان سانت ، و لم يجد فيه اي شئ سوى شابين تائهين وسط الصحراء و يعدوان الى ما لا نهاية ... من عادتي، أن مثل هذا الحديث يسليني ، بل قد يثير فضولي أكثر من لو أن الحديث دار مع مثقف "سينمائي" (و ليس المقصود هنا ترفعاً ابداً). لان ذاك الشخص قد يجد في عدد من الافلام مجرد تسلية تنسيه لبضع ساعات واقعه و لا يشغل باله بكثير من التفكير، بل يتطلب تفاعله مع الحدث. و لعل ما هو أكثر تسلية ما قاله أنه حاول المضي طويلاً في مشاهدته ، ولكنه سرعان ما تملكه الملل ، لانه بكل بساطة لم يجد فيه شيئاً يذكر !! قلت له أنني وجدت ذلك الفيلم عبقرياً.

لعل أجمل ما في السينما هي تلك المغامراة في المشاهدة و القدرة على تقديم ما يدهشنا و يدفعنا الى التسائل و التحليل . و هنا "جيري" لا يبغي " تلك التسلية" أو "التفاعل المصطنع" ، بل يبغى القلق و نقل المشاهد ليفكر مع الصورة . الصورة بكل بساطة مجردة ، و موغلة في البساطة ، بل لعل هذا الفيلم يشكل لب المينماليزم ، أي تجرد "الواقعة" من الاحداث و في طريقة السرد و تعاقب الصور، بعيداً كل البعد عن الاثارة و "التفزلك" في رسم تفاصيل الفيلم. هذا يشبه موسيقى الفنان برايين اينو (Brian Eno) ، الذي يعتمد النوتات الهادئة و المكررة في موسيقى الاليكترونيكا الالية ، ذات المستوى الواحد، لخلق عالم يسبح بعيداً في اجواء المجرات.

يأتي فيلم "جيري" ضمن سلسلة من ثلاثة أفلام ، هو أولها، تحت عنوان " سلسلة الموت" ، تبعها بكل من " الفيل " (Elephant) و "الايام الاخيرة" (Last Days) . و قد وضع سيناريو الفيلم كلاً من المخرج غاس فان سانت و الممثلين كاسي أفليك و مات ديمون. افتتاحية الفيلم تأتي مشابهة للفيلمين الآخرين ، من حيث أخذ لقطة عالية من الخلف لسيارة تسير على طريق صحراوي، من ثمم يخرج شابان ، كلاهما يدعى جيري ، من السيارة و يذهبان في مهمة للبحث عن شيء ما لا نعرف ما هو . يصلان الى نقطة معينة و من ثم يقررا الاستدارة و العودة الى السيارة ، لكنهما يفقدان الوجهة و يتابعوا السير يميناً و يساراً و لكن من دون جدوى. و هنا يقررا المبيت في الصحراء . يسيران مجدداً و يسيران لوقت طويل . ثم يتابعا سيرهما بصمت وسط الصحراء المقحلة ، الى أن يقفا للاستراحة. وفي لحظة لاستيعاب ما يجري لهما، يستغرق جيري (كاسي أفليك) في الحديث عن خسارته في لعبة فيديو حين ادرك أنه ينقصه حصاناً اضافياً لمجموع الاحصنة الاحدى عشر ليكمل اجتياح الفريق المنافس و غزوه... هذا و تزداد الصحراء قسوة و تتبدى طاقة الشابان في البحث العدمي حتى لو ترائ الامل سراباً...

بساطة الاحداث ، وقلة الحوار، و لو كان تافهاً ، لها دلالتها المستلة من واقع ما، و حتى لو أن هذا الواقع "المتخيل هنا " لا يحدث فيه الكثير و لا يستدعي بالضرورة أن يحدث فيه ما يحرك مسار الفيلم صعوداً و هبوطاً. لان واقع المتاهة يستلزم ذلك و حقيقة أن شابان عصريان يعجزان عن تحديد مسار الشرق من الغرب أو الشمال من الجنوب وسط الصحراء الشاسعة ، قد تشبه لعبة الفيديو التي وان خسر الاعب تتيح له كبسة الازرار معاودة الكرة من جديد لكسب الجولة، لكن الواقع هنا لا يمكن اعادة تسيريه في جولات جديدة ، و انما السيران في ظله و التوقف لايجاد الحلول الناجعة لتأقلم معه. اما في ما قل و دل في قلة الاحاديث ، فهذا لان قسوة الحضور الآني تشتت الفكر و يبقى السبيل الى النجاة المسيطر الكلي على الفكر.

التحدي الذي تفرضه الطبيعة على كلا ال"الجيري" كبير و قاسي ، في حين أنهما ببساطة عاجزين عن تحديد بوصلة الخروج ، و بالتالي فان معركة الوجود تزداد ضراوة . ولعل فيلم المخرج/الممثل شين بين "في البرية" (Into the Wild) ، المنقول عن قصة حقيقية لاميل هيرش الشاب الذي يقرر التخلي عن ترف الحياة و احراق كل ما يصله بها، ليرحل بعيداً الى عمق الطبيعة المتمثلة بسهول آلاسكا النائية. لكن حقيقة أن فتى المدينة ، الذي يبتغي حياة البراري و الراحة النفسية التي تقدمه ، بنى تخيلاته على نظرية ناقصة متمثلة في قدرته على تحقيق التكامل الذاتي مع الطبيعة ، لكنه لم يدرك أن تلك الطبيعة متقلبة و لديها شروطاً قاسية يجب أن تتوفر لمواكبتها و التأقلم معها. و يصح أيضاً أن اميل هيرش كانت نياته خالصة و طموحاته في قمة النبل الانساني لكن شائت الظروف أن تعاكس تلك المشيئة. هنا يختلف اميل هيرش و يتشابه مع كلا الجيري ، هو سعى نحو الطبيعة في حين أن الطبيعة فُرضت على الجيري ، لكن كلاهما يتشابهان في حقيقة أن الطبيعة باغتتهم و فقدا معها أنفسهم.

٢٠١٠/٠١/٠٦

لحظات عابرة: مخرجيين في قلب الصراع السياسي


قالها المخرج الكبير عباس كيروستامي: " صنع فيلمه بالسر و من دون موافقة السلطات و قرر الفرار من بعدها !" . هذا النقد وجهه كيروستامي ، صانع الشاعرية و رموزها في السينما الايرانية ، الى بهمان غوبادي ، مخرج "لا أحد يعرف عن القطط الفارسية " (No One Knows about Persian Cats) و الذي نال عليه استحسان الغرب (طبعاً!) و نال عنه جائزة النقاد في مهرجان كان للعام الفائت (وأيضاً طبعاً!).

و لعل النقد هنا قد يطال المخرج محسن مخملباف الذي يشن هجوماً متواصلاً على الحكومة الايرانية من منفاه الجديد في أوروبا، حيث تحول من صانع أفلام الى المتحدث الرسمي باسم المعارضة في الخارج. علماً أن مخملباف ، الذي تمتد تجاربه السينمائية من فترة الثمانينات الي الوقت المعاصر الذي منعت فيه أفلامه بعد أن كانت محوراً للحفاوة بها، كان قد سُجن في أيام الشاه اثر محاولته نزع سلاح شرطي ، شارك من بعدها في الثورة الاسلامية ضد هذا الحكم ، و لاحقاً تم تعينه من قبل النظام الاسلامي في مجال مراقبة الاعمال السينمائية ، الى أن قرر أن الاوان قد آن للانقلاب على الانقلاب.

المخرج جعفر بناهي ( الذي يأتي فيلمه السابق " الذهبي القاني " من سيناريو المخرج عباس كيروستامي . و هو فيلم سوداوي يحكي حياة الشاب حسين الذي يجد الاحباطات الكثيرة من خلال عمله في توصيل البيتزا يكتشف التناقظات و التفاوت الطبقي ، حينها يقرر السطو مع زميله على أحد محلات المجوهرات) الذي لا يجد من يحتفي بأعماله في الداخل أكثر من الخارج ، يقف بين جمهور المهرجانات ليطلب من لجنة التحكيم ارتداء شارة خضراء كرمز للمعارضة ضد حكم أحمدي نجاة وزمرته.

لكن اليس من حق هؤلاء التعبير عن أرائهم وأفكارهم كيفما شائوا وبكافة الوسائل المتاحة لديهم ؟ اليسوا هم جزءاً من مكونات المجتمع و يعكسون بأعمالهم تلك بعض الحالات التي يعانيها المجتمع ؟ الحرية شيء يملكه كل فرد و لا يحق لاحد انتزاعه منه و هي بالتالي حق مكتسب ، و لكل فرد من أفراد المجتمع حرية التعبير بالاساليب التي تعكس وجهة نظره . الا أن مشكلة تقع في الجهة المقابلة ، و بالتحديد مع بعض الاشخاص في اوروبا و آمريكا و في الصورة النمطية التي يريد الباسها على تلك الشعوب و لا يريد غير ذلك ، هو يريد حقاً أن يرى صورة المرأة النمطية لانها تثير لعابه و تخلق لديه تخيلات و تخيلات واسعة و عليه تغذيتها بالقدر اللازم لارضاء نزواته. يريد الثورات و الحروب التي لا تهدأ في بلاد العالم الثالث لانها تشكل مشروعاً للتدخل في شؤون تلك الدول - و الذي أصبح مادة يومية للسفارة الامريكية و المتسولين على ابوابها - أو من تلك المنظمات التي لا نعرف بالتحديد مصادر تمويلها. لكن السؤال الجوهري الذي يعيد طرح نفسه : ماذا قدمتم في المقابل لضحد هذه الصورة النمطية ؟ لا أعتقد الكثير !

الثقافة الايرانية حية و متفاعلة و نسبة الشباب المتعلم كبيرة و كذلك طموحاتهم ، و على قدر تلك الطموحات فهم يتطلعون الى نظام حكم عادل و متطور قادر على ايستعاب تلك الطموحات ، و عندما لم يأتي ذلك النظام على قدر تطلعاتهم انتفظوا عليه في شوارع طهران ، لكن لحساب زعماء معارضين ، ان نظرت ملياً في تاريخهم السابق تجدهم أكثر سوءاً في مجال حقوق الانسان و الفساد الاداري ( و طبعاً امريكا و بريطانيا - اللاعبان الرئيسيان في تلك التظاهرات - ليس لديهما مشكلة مع هذا أو ذاك ، طالمة أن مصالحهم مصانة . هم يريدون الطاعة من النصف الباقي ، و لا يهمهم لا ديموقراطية ولا بطيخ) ، و هكذا جاءت الثورة المخملية للمخرجيين مع نبض الشارع في مواجهة أنصار النظام.

: بهمن غوبادي :

هل أن السينما الايرانية تشهد اليوم مسيرة مختلفة عن سابقتها ، بعد أن شهدت صعوداً ذهبياً لفترة من الزمن ثم ضموراً عاد ليصحوا من جديد في أشكال تعبير جديدة ؟ ليست المسألة بهذا الشكل ، قد يكون المخرج بهمن غوبادي قد أخفى كاميرته و لم يأخذ اذن أحد عندما جمع عدداً من الشبان المتحمسين للغناء على طريقة الراب و الهيب هوب خلف اسوار مدينة طهران المقتظة ، حينها لم يكترث السيد غوبادي كثيراً للجمهور الذي تركه خلفه ، اراد الحصول على استحسان الجماهير الخارجية و ليس جمهوره و مريديه ، لان هؤلاء في طبيعة الحال سيتسنح لهم الحصول على شريطه هذا عن طريق السوق السوداء أو عن طريق الانترنت.

٢٠١٠/٠١/٠٣

Stuck


تشعر أحياناً أنك بت رهينة لظرف معين و تقول في نفسك " أنا علقان" (I'm Stuck) ! ... و كيف المخرج ، لا تدري ؟!... كيف وصلت الى هنا و لم أعد قادراً على التفلت منه ؟ بل و بات عليك أن تتأقلم مع الوضع الحالي، لانه لم يعد بوسعك سوى ذلك الى حين ...

يتبادر الى ذهني، في لحظة كتابة هذه السطور، مشهد من فيلم "فقد في الترجمة" (Lost in Translation) ، حيث سكارليت جوهانسون ملقاة باسترخاء و حائرة بأفكارها ، يجلس الى جوارها بيل موري ، الذي يجيد الاستماع و ممارسة الصمت بذكاء ،و تقول له : " ... نحن في ورطة !" . وذلك لان كلاهما قد وجدا نفسيهما في وضع مُحرج لم يعودا قادرين على الهروب منه ، وبالتالي على كل فرد التصرف وفق ذلك الظرف و معايشة الواقع كما هو (أو حتى التحايل عليه).

هل تعرف ما أتحدث عنه ؟