٢٠٠٩/٠٢/٠١

تشكيلات الحياة في " كن معي"




يبدأ فيلم " كن معي " للمخرج السينغافوري "إريك كو" ( Be With Me ) بمشهد طويل لواجهة متجر يتجه صاحبه الطاعن بالسن " سيو سنغ" لإغلاقه بعد يومٍ طويل . يلي المشهد يديّن تلامس ألة الكتابة القديمة لتكتب : “ هل الحب الحقيقي موجود، يا حبيبي ؟ " وتكمل :” نعم ، إذا وجُد قلّبك الدافيء" .
هذه الُجمل القصيرة هي العنوان الذي تتمحور حوله قصص مختلفة لشخصيات تواجه الوحدة و الألم النفسي، و تبحث عن حب صعب المنال في أوقات الشدة.

الرجل المسن " سيو شنغ "، الذي يبدأ الفيلم عنده، نراه يتدبر شؤونه اليومية: من الاستيقاظ باكراً الى إعداد الفطار و الجلوس لتناوله ومن ثم الخروج لتبضع لحاجيات الطبخ . زوجته الراقدة من شدة المرض ، يحاول قدر المستطاع الاعتناء بها و إعداد الأطباق لها للتخفيف من آلامها.


أما في القصة الثانية فهي تدور حول رجل يدعى " كو السمين" الذي يعمل كحارس في إحدى الشركات الكبرى و أثناء عمّله يتابع سيدة الاعمال التي يعشقُها من على شاشات المراقبة ، لكن عدة أسباب تحول دون لقائه بها، فهو شاب خجول و غير قادر عن الافصاح عن مشاعره ، هذا ما عدا الفارق الاجتماعي الشاسع بينهما. فمجرد كتّابة بضعة سُطور من رسالة الإعجاب يعاني الكثير ، و في أقات فراغه يسُرق النظر في مراقبة محبوبتُه داخل شقتها الفاخرة.

في حين ننتقل الى شاشة الرسائل الاليكترونية و"جاكي"، سحاقية الميول ، تتعرف على محبوبتها الجديدة حيث يتبادلن الرسائل و يتباحثن في كيفية اللقاء سوياً . تأخذ علاقتهن القصيرة نهجها الطبيعي لاي علاقة حب ، لكن سرعان ما يعتريها الجفاء و تبُدل المواقف . علاقة تغلف برسالة ال sms تتحكم المزاجية العاطفية إما بالرد عليها أو بشطبها من القائمة.

يعّمد المخرج "إريك كو" الى توظيف هذه العلاقات الشائكة ضمن الاطار الدرامي للفيلم. السياق الدرامي و المتداخل من قصة الى أخرى يأخذ محطة أخرى ليُوثق من خلالها السيرة الذاتية لإمرأة تدعى " تريسا شان " التي يعود لها الفضل لاستلهام المخرج لنص الفيلم ، كما جاء في جينريك المقدمة ، و لكونها تعاني من فقدان حاستي البصر والسمع فلديها العزيمة على مقارعة اليأس و العجز ، وتواصل حياتها بشكل طبيعي.

اليوميات البسيطة ل "تريسا شان" هي ترجمات تكتب على أسفل الشاشة لفهم ما تقوله عن حياتها و من خلال ما تذكره في كراسها عن الاشياء العزيزة على قلبها التي إسّتمدت منها الارادة لمجابهة إعاقتها. ومنها تصل مذكراتها الى أيدي الرجل المسن " سيو" الذي ينكب على قرائتها بشغف.
فهذه المفاهيم والمفردات الجديدة تجد تحولات داخلية لديه :عن كيفية الخروج من عزلته، الى تعامله مع تدهور صحة زوجته ، وصولاً الى إتقانه لأطباق جديدة تجد طريقها في نهاية الامر الى مائدة "تريسا".

المخرج " إريك كو " يعتمد الاسلوب البسيط في سرد أحداث الفيلم بلغة واقعية و مليئة بالاحاسيس و قريبة الى التجسيد الشخصي للممثلين داخل الاطار الدرامي ، و يعمد أيضاً من خلال كاميرته الى استعمال الكادر الثابت و اللقطات القريبة و المتوسطة في محاولة منه لتقريب المشاهد للتفاعل عن قرب مع ما تعانيه الشخصيات من وحدة و ألم داخلي و تشتت.

الكثير من الرمزيات و الكودة يعتمدها المخرج، بشكل متقن و حرفية جمالية ، في سياق الفيلم و أجمل ما يكون في مساحات الصمت التي هي أسلوب حياة لدي شخصيات الفيلم، والذين تخالهم قد فقدوا القدرة عن الكلام من زمن ليس ببعيد ؛ فالشابة " جاكي " تّعبر عن حبها لمحبوبتها عن طريق الرسائل الهاتفية و من على شاشة الكومبوتر ، أما " كو السمين " الذي يقظي جُل وقته في الاستمتاع بتناول وجباته في المطاعم ، يسُرق النظر في مراقبة محبوبته الافتراضية عن بعد و بصمت معتمداً على حركات جسده و تعابير وجهه لترجمة مشاعره.
في حين أن الاطباق التي يعدها "سيو شنغ" تُعّبر بإخلاص عن التبدل في مزاجيته.



المونتاج مشغول بحرفية من خلال التقطيع الذي يواكب التنقل الدرامي و ليس التسلسل التدريجي ذو الخط الافقي في السرد الدرامي، فيأخذ المواكبة التشخيصية بتوازي مع مثيلتها من الاحداث تباعاً لكل شخصية في الفيلم. الانتقال من لقطة الى ما يتبعها زمنياً (سواءاً في وقت النهار أو الليل) في اللقطة الثانية يفصلهما أحياناً بلقطة ثالثة للمدينة ضمن الكادر الواسع. هذا و يتم إبراز المكان كعنصر فاعل في التركيبة الاجتماعية للشخصيات. فمثلاً، يتم إختيار اللقطات التي تحكي وحّدة الرجل المسن " سوي شنغ" كالتالي: ينهض من سريره ، يتجه الى المطبخ داخل الرواق الضيق ، لتعود اللقطة من جديد الى سريره الفارغ حيث نجده في الخلفية يأخذ حاجياته من الثلاجة. بينما "كو السمين" ، الذي يقطن مع شاب يعامله باحتقار ، ليجد سعادته خارج جدران المنزل. بالاضافة، لما ذكرته سابقاً من الخلط بين الاحداث الرواثية و الوثائقي، تبرز اللقطات المأخوذة ل " تريسا شانغ" في معهد تعلم اللغة و داخل منزلها حيث تعد طبقها صباحاً و تجلس للكتابة مما يأخذ وقتاً طويلاً في منتصف الفيلم . فالصورة و الصوت و المونتاج ، كلها مجتمعة ، تخّلق إحساس تفاعلي لدي المشاهد و تُغّني سيرورة الاحداث ضمن اطار الفيلم.

فيلم "كن معي" يأتي ليقول أن الأشياء تتكامل في وجود من يخفف عنا أعباء الحياة بتجّرد جمالي مُتشعبٌ للقطات معبرة و غنية.

ما أن تدخل الى عالم قاطني المدينة الحديثة ( سواءاً كانت سينغافورة ، توكيو ، برلين أو أي بقعة في العالم الحديث ) المضطرب بهدوء ، لا يسعك الا أن تخرُج بإنطباع أن هناك أشياء كثيرة في الحياة تحتاج إلى تأمل و تأني في قرائتها. هذه هي الحياة المليئة تارة بلحظات السعادة و تارةً أخرى بالخيبات و شظف الحياة.

يمكنكم الحصول على الفيلم عن طريق : www.filmmovement.com


من الاعمال المشابهة :

Magnolia
Babel
Me and You and Everyone we Know


ليست هناك تعليقات: