٢٠٠٩/٠٣/٠٧

كينسكي : كل ما أريده هو الحب



لم يغادر كلوس كينسكي مخيلتي خلال مطالعتي لكتاب جاك كيرواك " على الطريق " (الذي سأتحدث عنه في الاسابيع القادمة عن علاقته بأفلام " على الطريق") حين يأتي سال ليلاقي صديقه الحميم داين موراتي الذي لا يختلف كثيراً عن كلوس كينسكي ، الكثير يفرقهما لكن الهوس الفاقع بالجنس و تهاوي المهنية الى الحضيض يجمعهما بشكل متطابق. فكما هو الحال مع داين موراتي ، الذي لا يفارق صفحات الكاتب الذي يقطع مسافات شاسعة ذهاباً و اياباً ما بين الشرق في نيويورك كمسكن و الغرب في مدينة سان فرانسيسكو كأقصاها، كذاك الشيء الذي جمع الممثل كلوس كينسكي في أربعة أفلام مع المخرج فيرنار هيردزوغ.

الدخول الى عالم الممثل كلوس كينسكي ليس بالامر الهين نظراً لصعود نجمه الحاد في فترة من الفترات و انحداره بعد ذلك الى مستويات ما دون الاشيء . هو مارلين براندو أوروبا ، و في ألمانيا لورانس أوليفير نظراً لجسارة أدائه المتميز على خشبة المسرح وخلف الكاميرا. ظهر كلوس كينسكي في العديد من الافلام التي قاربت ال ١٥٠ فيلماً ، و معيراً شخصيته ، المعروفة بسرعة الانفعال والعصبية، الى المارقيين في عالم السينما و مبتعداً عن مخرجين مهمين في هذا العالم. ومن الذين كتبواعنه وصفوه بأنه عبقري ، مهوس بالجنس و لديه عقدة جنون العظمة و احتمال كونه ملامساً للجنون.

هو كلوس غانتر ناكسينسكي من مواليد أكتوبر ٨ لعام ١٩٢٦ قرب دنسيغ في آلمانيا البروسية ، والتي عادت لتصبح غدنسك في بولندا. انتقل مع والديه الى برلين وترعرع هناك. انضم الى الجيش الالماني في اواخر الحرب العالمية الثانية، ووقع في شرك التحالف المضاد وأمضى ستة عشر شهراً كأسير حرب في أحد المعتقلات.

اختار كينسكي منهجاً خاصاً لحياته قائماً على امرين : الجنس و جمع المال. وكل ما عدا ذلك يعد ثانوي. و لهذا الاسلوب من حياة المجون و السعي وراء نزوات الشهوة حاصداً عدد ليس بقليل من النساء في فراشه. وهذا ما عبر عنه في كتاب سيرته الذاتية الايروتيكية " كل ما أريده هو الحب" الصاطع في المجون و الاباحية في دفة صفحاته ، و لم يستثني صناع السينما من هجومه العنيف . لكن كتابه هذا لم يسلم من الملاحقات القانونية ، الى أن وجد طريقه لماماً في اسواق بريطانيا و الولايات المتحدة تحت عنوان " كينسكي غير مختصر".

كلوس كينسكي في مشهد من فيلم " فيتزغيرالدو "

بدايةً كان كالمتجول على المسارح الالمانية ، أدى خلالها أدواراً بارزة و عند استراحته داعب صديقاته في المهنة (كما أتى على ذكره في كتابه). شهرته سرعان ما انتشرت في أرجاء برلين ، المدينة التي كانت تعيش أزمات متتالية بحثاً عن من ينقذ روحها و لوهلةً ما قد وجدتها في صطوع نجم كلوس كينسكي . وجدته في ذاك المحترف في الاداء المسرحي ، و المثير للجدل والثائر على الجمهور. وجدته في طريقة القائه الصارخ للغناء الشعبي في حانات المدينة ، و ليتحول تباعاً الى واحد من أهم الفنانين ما بعد الحرب. كينسكي كان كالمخلص من الوهن و الذنوب الثقيلة التي ألمت بألمانيا ما بعد الفاشية في عصر الانحطاط و البحث عن نقيض البطل لتجد في كاريسما كينسكي ما تبحث عنه و تغرف منه مأساتها .

اختصاراً لتاريخه المسرحي الحافل بالمتاعب و دخوله المصح النفسي جراء تناوله جرعات زائدة من الحبوب المسكنة للالام و عصبيته المفرطة التي ادت الى اعتدائه بالضرب على شرطي وعلى اثره دخوله السجن ، لم تكن بداياته السينمائية في السيتينات موفقة ، فظهر في العديد من الافلام الرخيصة تنوعت ما بين الويسترن ، وأفلام الجاسوسية و الرعب. الى انطلقت أولى شرارته العالمية مع المخرج البريطاني ديفيد لين سنة ١٩٦٥ كممثل مساعد في " دكتور دزيفاغو" و مع المخرج الايطالي سيرجي ليوني في " من أجل مزيداً من حفنة الدولارات" (١٩٦٥) ، لكن كل ذلك لم يرق كثيراً لكينسكي مفضلاً ترك سفينة الشهرة تتحطم على صخرة الشاطىء ، مع عدم اكتراثه للقب مارلين براندو أوروبا.

انتقل من بعدها الى روما عارضاً خدماته الى من يدفع أكثر، ومثيراً الاستغراب لدي الكثيرين لاعتقاده أن الافلام سواسية عديمة الفائدة . ولم يكترث لعروض سخية من مخرجين ذو شئن كشاكلة كين راسل، آرثر بين، فيلليني، فيسكونتي و باسوليني ، مبرراً رفضه ذلك بقلة الاجر المقدم من قبلهم.

السبعينات كانت حافلة بمزيدٍ من علاقة المودة والكراهية ما بين كينسكي و المخرج الالماني فيرنار هيردزوغ . وهذا الاخير أنقذ السمعة المتهاوية لكينسكي بتقديمه في سلسلة من الافلام التي حفظت له مكانة في التاريخ. هذا و لم تخلو علاقتهما من الحدة و الكراهية المتبادلة و الصداقة في نفس الوقت. فيرنار هيرزوغ الباحث عن تلك الشخصية المثيرة للجدل ، المتمردة والمعزولة عن محيطها، وجد ظالته بكلوس كينسكي.

تعود سر العلاقة القديمة الى ميونيخ الخمسينات حين قدمت عائلة هيردزوغ مسكناً لكينسكي . و يروى أنه خلال ثورات الغضب التي طبعت تصرفات كينسكي ، لجيء الى عزل نفسه لمدة يومين في الحمام و محولاً اياه الى مجرد رماد. هذه الحادثة أثارت اعجاب هيردزوغ.

كينسكي في "أغيري ، غضب الرب "

أولى الاعمال التي عمل فيها كلوس كينسكي للمخرج هيردزوغ كان بفيلم " أغيري ، غضب الرب " (١٩٧٢)، فيه وصل الى موقع التصوير
في بيرو ، مشوش الذهن بعد تجسيده جولة من درب آلام المسيح ، أثار الكثير من المتاعب على حلبة التصوير - وهذا ما تشعر به وأنت تشاهد الفيلم - لا يلبث أن يمارس تملقه باطلاق الرصاص من مسدسه تجاه مجموعة من الممثلين الاضافيين مصيباً أحدهم بجروح. هذا الامر استدعى من المخرج هيردزوغ ، المعروف باصراره المتواصل على التصوير في ظروف شديدة القساوة ومستحيلة أحياناً، الى تهديد الممثل بالسلاح للبقاء حتى الانتهاء من التصوير.

انقطعت العلاقة بين الاثنين الى أن هدئت حميتها وعاد كينسكي للظهور مجدداً مع المخرج في أعماله: " نوسفراتو " (١٩٧٩) و " يوزيك" من نفس العام . خلاله رفض الظهور بأية لقطات اضافية ما لم يتلقى أجره معللاً ذلك : " هل تطلب أخذ لقطة أخرى لتحطم سيارة ؟ أو تطلب لقطة ثانية لانفجار بركان ؟ ". في المقابل، اعتبره هيردزوغ " كواحداً من أهم ممثلين العصر ، لكنه أيضاً متوحش و وباء كبير ".

مع قدوم فيلم "فيتزغيرالدو" (١٩٨٢) ، الذي فاز عنه هيردزوغ كأفضل مخرج في مهرجان كان، ازدادت ثورات الغضب لكلوس كينسكي و أصبحت خارجة عن السيطرة في واحد من أكثر الافلام خطورةً و ضرباً من الجنون. القصة تدور حول فيتزغرالدو الذي يقوده هوسه بالاوبيرا الى محاولته نقلها الى أدغال الامازون وعليه يعمد الى الاستعانة بمجموعة من السكان المحليين لنقل القارب الكبير على سفح الجبل من ضفة النهر الى ضفة اخرى. لم يستعن هيردزوغ بأي من تقنيات المؤثرات الخاصة كتجربة فريدة ، أراد منها ان يلغي الحاجز الرفيع ما بين الروائي و الوثائقي، وعليه فإن عدداً لا بأس به من الذين شاركوا بالفيلم قد تعرضوا لاصابات مختلفة خلال نقل القارب، كما يظهر في الفيلم الوثائقي " عبء الاحلام" الذي صور المجريات الخلفية للفيلم.


وضع هيردزوغ سيناريو "كوبرا فيردي" (١٩٨٨) بين يدي كلينسكي ، مدركاً تمام الادراك أنه الفيلم الاخير الذي سيجمعهما سويةً. استجاب بدوره كينسكي للعرض. "كوبرا فيردي " كان اقتباساً عن رواية بروس شاتوين " انتصار عويدا" الذي يدور حول حياة فرانسيسكو مانوييل دي سيلفا (الملقب بكوبرا فيردي ) الذي كان تاجر للعبيد على السواحل الغربية لافريقيا. جرى تصوير الفيلم في غانا ، البرازيل و كولومبيا ، في حين وصلت عقدة كراهية البشر لدي كينسكي حداً لا يطاق، بدأ يشتم و يصرخ في كل من تعاطى معه، فلم يسلم الممثلين و العاملين من صخطه و غضبه ، كذلك الامر تفاقم مع المصور توماس موش الذي اضطر للانسحاب من المشروع بعد تعرضه للاهانات الممتالية من الممثل الغاضب ، مما استدعى من هيردزوغ لاستبداله على عجالة بالمصور فيكتور روزيكا. وبعد الانتهاء المضني من الفيلم ، حين وصلت الامور الى حد اللا رجعة ، تعهد الطرفان بعدم العودة الى العمل معاً مرة أخرى و هكذا كانت نهاية المشوار بين الممثل و المخرج. مشوار حافل بالمتاعب و الشقاء ، بالمودة و الكراهية بين الطرفين ، و صف خلاله كينسكي في مذكراته هيردزوغ
" بالجاهل، و استحالة العمل معه، و حتى بالمستبد " ، و أسهب في شرح وجهة نظره قائلاً :

أجبرت أن أصور من دون أخذ استراحة. صرخب بهيردزوغ و ضربته. كان علي أن اصارع من أجل كل جزء. كم اتمنى أن يلتقط هيردزوغ ذالك المرض أكثر من أي وقت. حتى أنه كان أقل حيلةً، أكثر غبائاً و في نفس الوقت أكثر اصراراً ضدي مما كان الحال عليه سابقاً في الافلام الاربعة التي عملت فيها معه. و بالرغم من حاجته الماسة لمساعدتي ، و تضاهره بتقبيل مؤخرتي في سبيل ذلك، عمل العكس من وراء ظهري. الناس في غانا لطيفيين و مسالمين. علم هيردزوغ كيف يستغلهم لمصلحته. أنا مدركاً لاساليبه الاجرامية و الاستعبادية منذ بيرو ، حين لجىء لؤلائك الاكثر ضعفاً، و حينها نعته بأدولف هيتلر. في غانا تفوق على نفسه.

في هذاالصدد أتى الرد من هيردزوغ على كراهية كينسكي له معلقاً على أدائه الذي " أصبح خارجاً عن السيطرة" . وجائت آرائه بالممثل بشكل أوضح في ثنايا فيلمه الوثائقي " صديقي العزيز " الذي انتجه سنة ١٩٩٩ كاستعادة لذكرى الممثل حيث ناقش العلاقة التي جمعتهما معاً، الكره المتبادل ، و الارث الحافل الذي تركا بصماتهما عليه. و علق مؤخراً : " لقد أكملت واجبي كجندي ، حارساً لموقع لا يجرى أحد على تحمله".
كينسكي و هيردزوغ في " صديقي العزيز "

و حين لم يأبه لسمعته السيئة في المحيط الفني - لعل ذوقه لامس الحضيض لدي مشاركته في فيلم بروبوغاندا اسرائيلي عنوانه "عملية الصاعقة" (١٩٧٦) - علق كينسكي قائلاً " أختار الافلام ذات العمل القصير و الاكثر أجراً "، و مبرراً لامبالاته " صنع الافلام أفضل من تنظيف المراحيض". و أعلن تذمره من جائزة تكريمه قائلاً " ماذا تعني هذه الجائزة على أية حال ؟ هل هي تقدير ؟ ومن أجل ماذا ؟ من أجل آلامي ، معاناتي ، يأسي ، دموعي ؟ وليس هناك حتى شيك ! هذا شائن ! " . في بداية الثمانينيات ، حزم كينسكي أمتعته وتوجه الى شمال كاليفورنيا، معللاً قراره ، " أفضل تنظيف الصحون في أميركا على صناعة الافلام في أوروبا " . وحين حط موطىء قدمه في كاليفورنيا، استقبله المخرج ستيفن سبيلبرغ و عارضاً عليه " المغيرين من آرك المفقود " (١٩٨١) . لم يقبل العمل المقدم و وصفه " بمنتهى الغباء الخرائي " . عوضاً عنه قبل العمل في "السم " (١٩٨٢) لصالح أجر مضاعف من المال .

آنذاك شهدت مسيرته الفنيه انحداراً لم يسبق له مثيل ، فتفرغ لمن يدفع أكثر، قائلاً : " أنا أبيع نفسي لأعلى سعر. تماماً كالمموس ، لا يوجد الكثير من الفرق". ظهر من بعدها بفيلم بيلي وايلدر الركيك " صديقي صديقي " (١٩٨١) ، و أخر بائس " اندرويد " (١٩٨٢) و لاحقا بفيلم " فتاة الدرمز الصغيرة " (١٩٨٤) ، و أكثرسوءاً في فيلم " فاكهة الشغف" (١٩٨١) الذي وُصف بأنه شبه اباحي . تلك الاعمال لم تقل سوءاً عن تصرفاته المفاجأة حين طالب أجراً يومياً يقدر بالخمسين ألف دولاراً كحد أدنى على مواقع التصوير ، و في نفس الوقت رافضاً أخذ تعليمات من أية جهةٍ كانت، و ليس أقله اصطحابه لعدد من الحسناوات الى فراشه.

حين انصرف الجميع من حوله، جاء "باغنيني" (١٩٨٩) كآخر عمل يتيم لكينسكي، و كمُخرج و ممثل لعمله هذه المرة ، بعيد ابتعاد هيردزوغ عنه ، مستعيداً خلاله سيرة العازف المشهور نيكولا باغنيني . الفيلم أتى وقعه على جمهور مهرجان كان كالاضحوكة ، و لم يكن سوى الفتيل الذي أشعل غضب كينسكي و أثار حنقه على المشاهدين و لجنة التحكيم واصفاً اياهم بالحمقى و على عجل غادر المهرجان عائداً الى كاليفورنيا.

في السنوات الاحقة ، وفي نهار الثالث و العشرين من نوفمبر لعام ١٩٩١، عاجلته نوبة قلبية غاضبة أنهت حياته ، تاركاً ورائه حفنة من الأعمال ذات القيمة الفنية ، ورزمة من الأفلام السيئة و سيرة حافلة بالكثير من المتاعب ، الخيبات، ثورات من الغضب ، شهوات ايروتيكية
و سير لنساء عابرات.

على ضفاف المحيط الهادىء نُثر رماد كلوس كينسكي بحضور ابنه نيكولاي و المخرج هيردزوغ الذي آتى ليتذكر تلك الايام المضنية التي لن تعود سوى على شرائط السليوليد. عند الانتهاء من المراسم، أتت الامواج العاتية على رماد ذاك الذي لم يرد سوى الحب و ابتلعته في محيط النسيان.

-----------------------------------------------------------------------------------------------------
* تم الاستعانة بالمصادر التالية لكتابة هذا المقال :


- Klaus Kinski Biogrpahy on imdb.com
- UNCUT magazine, December 2001 , Take 55, P. 64
- Fitcarraldo on wikipedia.
-Cobra Verde on Wikipedia.

ليست هناك تعليقات: