٢٠٠٩/٠٣/٢٢

سينما الطريق : طرق وعرة كحكياتها




عندما انكب جاك كيرواك على كتابة روايته المقتبسة عن سيرة حياته تحت عنوان "على الطريق" (On the Road) مهد لبروز جيل صاعد عرف ب "جيل بيت" ، وهو جيل الخمسينيات الاهث خلف مفهوم جديد للحياة مخالفاً للتقاليد والاعراف المتبعة آنذاك في اسلوب الحياة الامريكية . تُرجم هذا التعبير عن طريق الهروب من الواقع بتعاطي اصناف متنوعة من المخدرات و ممارسة الجنس بلا حدود و اكتشاف ديانات جديدة آتية من الشرق و بالتحديد البوذية ، التي تركت اثرها العميق في حياة الكاتب جاك كيرواك. كتابه هذا أتى كالاشعاع المنير الذي آلهم ألاف الشباب و بات يعرف بملك ال"بيِت" ، كلقب لا يحبذه كيرواك كثيراً. أحد الرواة ذكر يوماً انه جاء لزيارة كيرواك بشقته ، حيث كان يسكن مع خالته ، و تفاجاء بمدى انشغال اصابعه بالكتابة من دون توقف على الآلة الكاتبة. اسلوبه في الكتابة جاءت غريبة بعض الشيء ، فقد جمع عدد كبير من الاوراق و اللصق أطرافها و ما أن بدأ الكتابة حتى تسارعت انامله تلاحق بنات أفكاره من دون انقطاع. في نهاية الامر بدت تلك المخطوطات ، التي عُرضت لاحقاً بأحد المتاحف ، كالطريق الذي سافر عليه يوماً من نيويورك الى سان فرانسيسكو حاملاً روحه بين كفيه و أوراق معدودة من النقود في جيبه. بعد عودته من ترحاله وجد كيرواك أن جيلاً بأسره كان يسعى للسير على خطاه.

أثناء حقبة الثلاثينيات في أميركا و الكساد الاقتصادي الكبير ، تدافع الالاف من الاشخاص و العائلات من الولايات الشرقية التي لم تقدم ما يكفي من المساحة و فرص العمل ، الى ركوب القاطرات و التوجه الى الغرب حيث الفرص الجديدة في العمل و تنوع المساحات الشاسعة و الحياة الواعدة مع اكتشاف مناجم الذهب. فأصبح الغرب كالاسطورة التي تقتبس منها الروايات و القصص عن حياة أشخاص تبدلت حظوظهم الى الافضل و أصبحوا ميسورين ، أما للبعض الاخر فلم تكن ذات نهايات سعيدة ، بينما تلاشى أخرين كالاشباح مع تفشي الاوبئة و اشتداد قسوة المناخ . لكن كل ذلك لم يأثر في مخيلة الكثيرين عن أن الغرب الامريكي قد بات الوسيلة الوحيدة للهروب و البحث عن حياة جديدة.

وهذا ما انعكس فعله في "سينما الطريق" : الطريق غرباً يتسع للكثير من الحالمين و الباحثين عن معنى جديد للحياة ، عن حياة لا تشبه ماضيهم ، فيها السعادة تتحدى الاحباط و التعاسة ، المغامرات تقارع العادي و الممل ، و الحرية تهزم العبودية على جميع أشكالها. أفلام على الطريق أتت لتقول كل ذلك ، فبعضها صُنف ضمن هذا الاسلوب وباتت تُعرف بأفلام الطريق و أخرى لم تدخل ضمن هذا الاسلوب لكن الطريق أتي ضمن السياق العام للقصة. و المقصود بالثاني أن بعض افلام الطريق تغرف من التصنيفات الاخرى من تلك الموجودة في الافلام السوداء ( أو القاتمة) و من افلام الاثارة و أفلام هيتشكوك ، على سبيل المثال " شمال في شمال غرب" (١٩٥٩) و غيرها من الافلام...

الطريق مليىء بقصص المغامرات لاشخاص خلف المقود متجهين الى وجهةٍ ما و حيثما تأخذهم أقدارهم. الخلاص قد يكون مبررهم و هو بالفعل كذلك أو البحث عن معنى جديد لحياتهم. نهاية الطريق قد تأتي بالمفاجأت الغير سارة و التي لم تكن في الحسبان . وحده القوي قادر على النجاة أم الضعيف فمصيره مجهول. وقد تكون نهاية الطريق بداية مشوار يعود منه الفرد غانماً بمعاني ومفردات جديدة يُصلح ما فاته سابقاً ، وأحياناً قد تقوده الى الهلاك و اللاعودة وأحياناً قد تكون مغامرة تؤدي الى مزيدٍ من التحدي و الاكتشاف.


لم يأتي فيلم " راكب الدراجة السهل" (١٩٦٩)، ل دنيس هوبر و بيتر فوندا و جاك نيكلسون، من العدم ، بل جاء ليحكي عن جيل بأسره في مطلع حقبة الستينيات ثائر على التقاليد و مقدماً مفاهيم جديدة في الثقافة الامريكية عن أناس ركبوا دراجتهم النارية و توجهوا غرباً و جنوباً ليعيشوا حياة بوهيمية مليئة بالصخب و المخدرات.

حصيلة بيع غنيمة من المخدرات المهربة من المكسيك الى لوس أنجليس تحط بين يدي وات و بيلي ، و تقودهما الى مزيد من التجوال يلتقيان خلالها العديد من المسافرين على الطريق من بينهم تجمعات الهيبيز الباحثين عن زراعة حشيشة الكيف في مكان أكثر أمناً ، الى التجوال عارياً و الغناء ليلاً نهاراً و توزيع الحب بلا قيود. من بعدها يكملا المسيرة الى أن تبدأ المتاعب و يكتشفا أن للحرية ثمناً باهضاً لا تكفي الاموال وحدها لتحقيقه. في أحد المشاهد من الجزء الاخير للفيلم، يقول وات ( بيتر فوندا) لصديقه بيلي (دنيس هوبر) " أتعلم يا بيلي، لقد أضعنا الفرصة" .

بيتر بسكيند في كتابه الشيق " سائقي دراجات سهلة، ثور ثائر " (Easy Riders , Raging Bulls) يتحدث باسهاب عن الظروف التي واكبت فريق العمل الذي انسجم مع الاجواء المختلقة للفيلم و منها ما در من مشادات عنيفة بين فريق التصوير و المخرج/الممثل دنيس هوبر الذي كان أثنائها يتعاطي المخدرات بلا هوادة.

في فيلم " نقطة التلاشي" (١٩٧١. Vanishing Point) للمخرج ريتشارد سارافيان، يختار كولاسكي (باري نيومن) مهنة توصيل سيارات لصالح شركة من مدينة الى أخرى . في فلاشباك نتعرف على مهنه السابقة كشرطي و محارب سابق في فيتنام ، و مُحّترف سباق سيارات و عجلات نارية، وقد تخلى عن كل تلك المهن لعدة اسباب . القصة تتقاطع بين الفلاش باك و الحاضر . يتعرض كولاسكي لملاحقة من قبل الشرطى على خلفية عدم مثوله لاوامرهم بالوقوف ، فتبدأ المطاردات. و اثر سماعه لمعانة كولاسكي ، يسعى صديقه المسمى " سوبر سول" للتحدث عنه ك " أخر أميريكي بطل" مما يجلب له التعاطف من سائقي الدراجات و الهيبيز و غيرهم ممن يتجولون على الطرقات...

أتى هذا الفيلم ليحكي عن المزاج العام لحقبة ما بعد الوود ستاك ( WoodStock) لجيل تأثر بأغاني البيتلز و جيمي هندركس و قرر التمرد على حروب أمريكا في فيتنام ، و منتفضاً على العادات الاجتماعية و التمييز العرقي و مطالباً بحقوق المرأة و متحرراً من كل القيود التي تحد من حرية الفرد في اختيار اسلوب حياته.

التحرر النسائي من القيود الاجتماعية و السلطة الذكورية جاء بقوة في فيلم ثيلما و لويس (١٩٩١. Thelma and Louise) باكورة المخرج ريدلي سكوت و الكاتبة كالي خوري ، ليحكي عن هروب سيدتين من حياتهن العقيمة و الركوب خلف المقود في مغامرة شيقة نحو تخوم الحرية تاركين ضجيج الملاحقات خلفهن. فكلاهما يتمتعان بحس من الوعي الذاتي و الحنكة ، لكن حياتهن لم تصلهن الى أي شىء يذكر . ثيلما ( جينا دافيس) هي ربة منزل وزوجة ضعيفة أمام زوج متسلط يحطم من شأنها ، و لويس ( الرائعة سوسن سارندان) تعمل كنادلة في مطعم ، تلمع لديها فكرة الهروب من كل ذلك و تحث صديقتها ثيلما على تلك الفرصة النادرة التي لن تتكرر مجدداً. المكسيك هي وجهتهن. و بما أن المكسيك تمثل لذلك الوعي " الملاذ الاخير" لدي الامريكين للهروب من ملاحقات السلطة ، فمجرد عبور الحدود الفاصلة هو مكسب للحرية وبداية التجديد (لا يغيب فيلم سام بيكنبا "الهروب " ( The Getaway) ١٩٧١، حول فرار ستيف مكويين و ألي مكرو الى الحدود الاخيرة).

المفاهيم التي تحكم أفلام الطريق تمُد مريديها بحرية قصيرة سرعان ما تتحول الى كابوس من الخوف . ففي حالة ثيلما و لويس تبدأ الحرية من اللحظات الاولى للخروج من منازلهن و تنتهي عند سقوط أحد المعتدين خارج مرأب السيارات لحظة اطلاق النار عليه من مسدس لويس. حريتهن تتعرض للملاحقة و هنا يتحول الطريق الى متعرج خطير لا يسلم منه الا القوي أمام ملاحقة المباحث . هذا وقد أعقبه بسنوات الفيلم الفرنسي " اغتصبني" ( Bais Moi . اخراج فيرجيني ديسبينتس) الذي جاره في موضوعه ، لكنه سقط في تقديم العنف كمبرر والجنس القريب من الاباحية كسبيل للاثارة وليس الا.

اللجوء الى العنف لتحقيق الغايات عند اول تقاطع لمدينة صغيرة ، قد يعود بنا الى أولى الافلام الصامتة مع " سرقة القطار الكبيرة" ( The (Great Train Robbery{١٩٠٣} و لاحقاً بسنوات عديدة في الستينات مع "بوني و كلايد" (١٩٦٧. Bonnie and Clyde) للمخرج آرثر بين و من تمثيل وارن بيتي و فاي دانوي ، لفيلم يجمع ما بين أفلام الطريق و أفلام العصابات ، جاعلاً الكثير من التحولات في صورة تقييم العنف المبني على الفعل وردة الفعل للتجاوزات الحتمية لثلة من عصابة مكونة من رجل وسيدة يقودان عمليات سرقة بنوك و تصديهما لملاحقات الشرطة. هذا الفيلم كان الفاتحة لشهرة كل من جين هاكمن و فاي دانواي و كل من شارك بالفيلم.


بالعودة الى الوراء قليلاً ، و الى صاحب رواية " عناقيد الغضب" ( Grapes of Wrath) جون ستاينبك ، الذي كان كثير التجوال بعربته ، اقتبسها للشاشة ، تحت نفس العنوان، المخرج جون فورد. القصة تنقسم الى ثلاثة أجزاء: فترة الجفاف الذي يجتاح أوكلاهوما في الثلاثينات ، و هي تلك الفترة التي عُرفت بالكساد الكبير، و رحلة عائلة جود الى كاليفورنيا سعياً وراء لقمة العيش وصولاً الى تجارب تلك العائلة المهاجرة في وسط كاليفورنيا. الجفاف الذي تبدأ به الرواية ينتهي بالطوفان . الارض الشاسعة و ما تحمله من جماليات يقترب منها المخرج جون فورد بكاميرته لابراز مدى قسوتها و كيفية تعلق الانسان بها. سفر العائلة المرير من أرضها الى بيئة رحبة ليس بالامر الهين لان الطريق الى السعادة يحمل الكثير من المشقات .

ولان مفاهيم الطريق ليست معبدة لمن يسير عليها ، قد تحمل لمن يجهلها الكثير من المفاجأت . لعل القناعة التي ترسخت في الوعي الارادي ل ثيلما و لويس حول ما قد يكون عليه مصيرهما لدي ركوب عجلة المغامرة و الذهاب بعيداً سعياً وراء أحلام اليقظة بسيطاً و سهلاً مقارنة بما يتربص بهن في نهاية الطريق ، كذلك الشىء بالنسبة لكلاوسكي و غيره ... قد تسير الامور على ما يرام للحظة ما تلبث أن تنقلب رأساً على عقب في لحظة من لحظات القدر. و حقيقة الامر أن فيلم الطريق قد لا يكون معني كلياً بالطريق أو حتي بالرحلة بقدر ما هو مشغول بالبحث عن الامل و مقارعة اليأس.













Days of Heaven











Badlands

تيرنس مالك في فيلميه " أرض السيئين" (. Badlands١٩٧٣) و " أيام الجنة" (١٩٧٨. Days of Heaven) حقق جماليات شعرية متناهية في مشهديته عن ثنائي نقيض بين السيىء و الطيب. السيئين على شاكلة "بوني و كلايد" و عن العلاقة التدميرية التي تتمثل ب كيت ( مارتن شين) ، الذي يرى نفسه على شاكلة ذاك المتمرد الشقي جيمس دين، الذي يقود و صديقته هولي ( سيسي سباسيك) في ركب من القتل المتنقل على وقع تنتمات ترويها هولي بعفوية شاعرية. و الطيبان بيل (ريتشارد غير) و آبي (بروك آدمز) في " آيام الجنة" يتنقلان على ظهر مقطورة القطار بحثاً عن مكان أكثر رحابة يتيح لهما التجوال بين ربوع الارض المنبسطة ليحرثا ملحها بمودة رغم عناد القدر الذي يفرقهما.

بعكس التيار يتجه جو بك (جون فويت) الى نيويورك تاركاً ورائه حياته العادية نادلاً في أحد مطاعم تكساس ليتحول الى مخادع برفقة المحترف راتسو (داستن هوفمن) في شوارع نيويورك بفيلم " كاوبوي منتصف الليل" (١٩٦٩. Midnight Cowboy) للمخرج جون شريسنغلر. أجواء من الواقعية تتعمق في مسيرة الشابان بحثاً عن الخلاص في مدينة صاخبة مليئة بكل أنواع الشغف.

أفلام على شاكلة " التفاف" (De Tour) ، للمخرج ادغار اولمر ، الذي جاء سنة ١٩٤٥ لم يرتكز على اناس متجهين الى الوجهة الغربية سعياً وراء طموحاتهم بقدر ما ارتكز على طموحاتهم الشريرة في اصطياد اناس ابرياء. فليس كل من قصد الطريق الى الغرب كانت نوايه حسنة . فهنا آل (توم نيل) عازف بيانو يتنقل بتجواله بين كل من يصادف مروره غرباً باتجاه لوس آنجيليس، الى أن يحالفه الحض مع رجل بسيارته الفارهة يسقط قتيلاً بعد برهة ، يسارع آل الى سلب محفظته و ملابسه و هويته و يرمي بجثته بعيداً و يستولي على سيارته.


"التفاف" حقق نجاحاً باهراً رغم تواضع ميزانيته، مستعيناً بمجموعة من الممثلين غير محترفين و أماكن قليلة للتصوير، استطاع الفيلم أن يسلط الضوء على جوانب عدة من تلك الاشياء التي تحدث بعيداً عن الاضواء : من استعمال المخدرات الى الاستغلال الجنسي و صولاً الى الجريمة. كلها جاءت مواكبة لنمط الفيلم الاسود السائد آنذاك ، ولا ننسى دور المرأة الخطرة "فام فتال"( Femme Fatale) التي تحترف العمل في ذلك الوسط المعتم من الطريق و حيث تتكاثر سلطة المال و الجريمة سواءاً داخل غرفة في فندق رخيص خارج حدود المدينة أو في وسطها.

في التسعينات جاء المخرج ديفيد لينش بحكاياته الطويلة مع الطريق بدئاً ب " بري في القلب" (Wild at Heart. ١٩٩٠) ، المقتبس عن رواية باري غيفورد ، الذي ينتمي الى جيل جاك كيرواك ، ويدور حول شخصين ، سايلور و لولا، مهوسين جنسياً ، يقررنا الهروب من أم لولا الشريرة التي تبعث بقاتل لقتلهما. و في ظل أجواء من الغموض و فقدان الذاكرة مع فيلم " الطريق الضائع" (١٩٩٧ . Lost Highway) بفيلم مفعم بالاجواء السريالية و الضياع و مستعيداً أجواء الفيلم الاسود.

و في سنة ١٩٩٩خرج دايفيد لينش بفيلم " القصة المستقيمة" (The Straight Story) الذي جاء وقعه كالصدمة على معجبيه ، لكونه انحرف عن القاعدة "اللينشية" التي صبغت معظم أفلامه ( لكن سرعان ما عاد الى أجواءه من جديد بفيلم " طريق مولهلند"- Mulholland Drive- في ٢٠٠١)، هذا أولاً، و ثانياً كون الفيلم من انتاج ديزني وبالتالي لم يشارك لينش في كتابة السيناريو بل أوكل النص الى كل من جون روش و ماري سويني ، و من جهة أخرى ابتعد فيه لينش كل البعد عن الغموض و السيكولوجية التي هي علامات فارقة في جميع أفلامه. اذا " القصة المستقيمة" جاءت مستقيمة من دون لف أو دوران و هو عربون وفاء للممثل الرئيسى ريتشارد فانس ورث الذي انتحر بعد سنة عن نهاية الفيلم اثر معاناة طويلة مع مرض السرطان الذي اعطب رجليه لمدة من الزمن. ريتشارد فانس حمل أوجاعه وجاء ليمثل الدور تحت امرة صديقه ديفيد لينش و حباً بشخصية آلفن سترايت الذي تُشكل قصته الواقعية محور الفيلم. آلفن ستريت من جيل المحاربين القدامى للحرب العالمية الثانية ، يأتي الى سمعه اصابة أخيه البعيد بجلطة، يقرر على أثرها التقرب اليه بعد جفاء طويل استمر لدهر من الزمن. وكون آلفن لا يملك دفتر قيادة من جهة و من كثرة آلامه الجسدية التي قد لا تعينه على مشقة الطريق ، يقرر ركوب جزارة العشب و الاتجاه في رحلة طويلة من مسكنه في ولاية آيوا الى ويسكونسن في الشمال ليجتمع بأخيه. الفيلم ذو دلالات عدة عن رجل يقرر ركوب عجلة تحدي القدر في سبيل الوصول الى أخيه قبل أن يخطفه الموت و ليقدم معاني في رباطة الجأش و الصبر على كل ما قد يعترضه من الوصول الى مسعاه.

لا يقل غرابةً عن تلك الاجواء المخرج الكندي دايفيد كروننبرغ في " الاصطدام" (١٩٩٦ . Crash) الذي أثار زوبعة من الجدل بين النقاد و المشاهدين ، لعمل يجمع بين فانتاسيا غريبة بين تلاحم الجسد و تصادم السيارات كاشباع لتلك الرغبات المتفجرة بعنف. " الاصطدام" هو سليل الرغبات الجنسية القاتلة على قارعة الطريق . و لعله من الواجب التسائل عن ماهية الفيلم : هل هو فيلم طريق بقدر ما هو فجور جنسي لا أكثر ولا أقل ؟ أم أن المخرج كروننبرغ يستعمل امثولة الطريق لسبر أغوار فانتاسيا شخوصه عند تلاحم الجسد بالحديد كغيره من المواضيع التي تحدث للسائرين على الطريق؟ التسائل الاخير هو أقرب الى مفهوم الفيلم الذي يدخل في صلب كل الاشياء التي قد تحدث ضمن هذا النطاق لاناس تقودهم شهواتهم الى المجهول المتمثل بالفانتاسيا المدمرة . بل أن الفيلم مقاربة للعدمية عنه الى اليوتوبيا أو الطموح الى المثالية.

سينما الطريق لم تقف عند حدود الولايات المتحدة (هوليوود و الاعمال المغايرة لها) بل تعدتها الى بلدان أخرى . في فرنسا و مع الموجة الجديدة (Nouvelle Vogue) و أول أعمال جون لوك غودار في " الاهث" (A Bout De Souffle) لسنة ١٩٦٠، الذي يقدم خلاله شاب يسرق سيارة في مدينة مارسي، يطلق النار على شرطي يلاحقه ، يلتقي بصديقته الامريكية ، و يختبأ عندها.. الطريق هنا لشباب يبحث عن الامل و الحياة السهلة.

ولعل أكثر الافلام المتعلقة بالطريق هو ثلاثية أفلام " ماكس المجنون " ( Mad Max) للمخرج الاسترالي جورج ميلر عن عالم ما بعد انهيار الحضارة و القانون و سيادة شريعة الغاب . فيه عالم تحكمه عصابات الطريق و الضعيف لا سبيل لديه سوى اللجوء الى من يحميه ، وهنا يأتي دور ماكس المجنون ( ميل غيبسون ) . فيلم المطاردات و العنف المتناهي ، قسط كبير من اجزاء الفيلم تدور على الطريق و تزداد عنفاً بين الخير والشر كلما تقلصت الحضارة البشرية و ازدادت شراسة الاشرار مع تقدم اجزاء الفيلم.



أما عالم المخرج المستقل جيم جرموش فهو أكثر استقراراً مع " الليل على الارض" (١٩٩١. Night on Earth) الذي يأتي بمجموعة من الاشخاص خلف عجلة التاكسي في مدن مثل لوس انجليس ، نيويورك ، روما، باريس، و هلسنكي. في كل مدينة هناك حكاية و حديث يجمع بين السائق و الراكب. لا يحدث الكثير سوا من بعض الاحاديث الممتعة التي نتعرف من خلالها على فرادة الشخصيات. و كعادة جيم جيرموش يعتمد على البساطة في تركيبة الفيلم و كذلك في أخذ المشاهد لفيلم يولي الاهتمام للامور الاجتماعية المحيطة بسائقي التاكسي على الطريق.

مقابله في الجهة الاخرى للحدود الفيلم المكسيكي " أمك أيضاً" ( Y Tu Mama Tambien) للمخرج آلفونسو كورون ، الذي حاز من بعده على شهرة عالمية أهلته لاخراج واحد من أفلام سلسلة هاري بوتر و أخر في "أطفال الرجال" ، لمغامرات جنسية لشابين مراهقين لا يملكان الكثير حتى يفقدانه تتوسطهما فتاة في العشرينات من عمرها . الطريق يقدم فرصة ممكنة لكليهما حتى يبلغى سن الرشد.

أما المخرج اليوناني ثيو آنجليوبولوس ، الذي يعتبر واحد من أهم عمالقة السينما المعاصرة، الكثير من الاعمال التي تصب في خانة أفلام الطريق لاناس يأتون من بعيد بحثاً عن ماضي غابر و يهيمون في أرض الله الواسعة في تناسق وجداني و واقعي . الاساطير الاغريقية لشعر هومر و اسطورته الاوديسية (الرحلة) لها انطباق خاص و قوي في أفلام آنجليوبولوس . الاوديسيا خاصته تبحر في الوعي الآني وللاسطورة و الذاكرة و يصفها المخرج هنا بالثلاثيته الصامته: صمت التاريخ (بفيلم "رحلة الى سينثيا" ١٩٨٣) ، صمت العشق (" النحال " ١٩٨٦) و صمت الرب (" الارض الشاسعة في الضباب " ١٩٨٨) .


عودة الاجيء السياسي المبعد الى موطنه ليستعيد ماضيه و نسج خيوط التواصل مع عائلته في "رحلة الى سينثيا" (Voyage to Cynthia) ، يستعمل المخرج خلالها التعابير الرمزية لحالة مماثلة عاشها والده الغائب سبيروس ، فيجد ذلك العائد أن الحروب ما أبقت شيئاً في محله و تبدلت معالم القرية التي كان يعرفها ليحل المد العمراني الحديث محلها و ليدرك حينها أن فكرة الموطن قد أصبحت مجرد اسطورة. هذه الحياة العبثية تظهر في " النحال" (The Beekeeper) لجيل فقد شبابه في حروب طويلة و نكسات اقتصادية، تتمثل في رجل في منتصف عمره يدعى سبيروس أيضاً ( يقوم بدوره الممثل الايطالي مارشيلو ماستورياني ) يهاجر الى الجنوب ، بعد أن فقد ابنته لزواج فاشل ، بحثاً عن معنى ما لحياته و محاولاً التواصل مع العالم الحاضر بصحبة شابة لا تعرف الكثير عن ماضيها. سبيروس الهائم من دون وجهة محددة على أرض لم يعد يعرف الكثير عنها. تلك الارض الاسطورية هي ذاتها في " الارض الشاسعة في الضباب " ( Landscape in the Myst) التي يسير تجاهها الاخوين ، فوالا و أليكسند ، في محاولة منهما للبحث عن الاب الشرعي كما جاء بوصف والدتهما التي تعيش في المانيا. الفيلم يعبر عن رحلة جيل بحثاً عن الهوية و عن التواصل مع الاجداد.

هارفي كايتيل في " نظرة أوليسيس" (١٩٩٥. Ulysses' Gaze) للمخرج أنجليوبولوس ، يأدي دور مخرج في المنفى يذهب في رحلة عبر بلاد البلقان لاستعادة أجزاء من أفلام مفقودة للاخوة مناكيس الذي كان لهم الفضل في تعريف أبناء المنطقة بالسينما. رحلة كايتيل مرهقة و مشحونة بالمشاعر على أرض شهدت الكثير من التقلبات التاريخية و الحروب الطاحنة.

خلاصةً ، يمكن للطرقات أن تتغير معالمها و تتبدل ، لكن روادها لا يتبدلون ، هم ما زالوا الى اليوم هائميين في كل الاتجاهات شمالاً وجنوباً، شرقاً و غرباً ، بحثاً عن حياة أفضل ، أو أمل متجدد ، عن أحلام غير متناهية ، و عن فرص قد لا تتكر ، مقارعيين اليأس أو مستسلمين له ، أو باحثين عن الخلاص في كل مكان أو في المكان الخاطيء ، أو لعلهم لا يكلون عن البحث...

-----------------------------------------------------------------------------------------------------------
تم الاستعانة بالمصادر التالية لكتابة المقال:

  • On the Road, a Book by Jack Kerouac
  • Movie Mad America: A Cultural History of American Movies, a book by Robert Sklar, P. 357
  • Easy Riders, Raging Bulls, a Book by Peter Biskind
  • Great Directors, Angelopoulos, Senses of Cinema: Directors database
  • www.hackwriters.com) Article: The Road Movie by Sam North, Part. 1 and Part 2)

هناك ٣ تعليقات:

Luis Portugal يقول...

Hello
It has a nice blog.
Sorry not write more, but my English is bad writing.
A hug from my country, Portugal

ali hammoud يقول...

Thank You, Luis

كمال حاجو يقول...

كتاب جاك كيرواك (على الطريق) تم تنفيذه مؤخراً كفيلم :

http://www.imdb.com/title/tt0337692/