٢٠٠٩/١٢/١٣

عدت للتو من حضور مهرجان دبي السينمائي حيث تم عرض فيلمي الوثائقي القصير " عن أولئك الذين رحلوا " ، و هنا مقال للزميل ابراهيم توتونجي في جريدة البيان الاماراتية حول الأفلام المشاركة في الليلة اللبنانية التي أقيمت ضمن مهرجان دبي السينمائي الدولي.


شيرين أبو شقرا، مريمام الحج، علي حمود، جيل طرازي.. أربعة شبان من لبنان واجهوا أول أمس جمهور «دبي السينمائي» في الصالة الكبيرة التي احتضنت ليلة «سيني كلوب» اللبنانية. «نشكركم، قدمتم جديدا، بعيدا عن الطائفية والحرب الأهلية»، قال احد المتفرجين. «لماذا ركزت على المثلية الجنسية في مشاهد بين فتاتين.. لماذا غابت صورة الرواة، أصحاب الضحايا في فيلمك.. لماذا لم نشاهد الحرب (!) الدائرة في الشوارع، فيما أبطالك مشغولون بالتدريب على مسرحية..


هل أردت من فيلمك إدانة الشباب اللبناني الذي يغادر البلد..»، هذه عيّنة من أسئلة الشباب اللبناني، على المقلب الآخر، «مقلب» الجمهور. عينة تعكس قليلا عن أزمة السينما في لبنان، المعبأ بأزمات متشعبة، ليس آخرها الفن السابع.


أزمة جمهور المتلقين، ممن يشتهون أفلاما تبعدهم عن واقع السياسة والفساد والتردي الاقتصادي الذي تغرق فيه شوارع بيروت، وتراهم في الوقت ذاته، ينبرون لـ «قراءة» هذه الأفلام، بمكانيزمات وفلسفة ذات الواقع الذي يدعون نبذه.


لم يتحمس أحد من الشباب اللبناني الذي غصت به قاعة «مول الإمارات» لكي يسأل مخرجي الأعمال عن تجربتهم السينمائية، في عمقها، أسلوبا ومضمونا، وحكايات التجربة الأولى، والمثل الأعلى والحلم والمشروع. لم يسأل أحد أبو شقرا إن كانت بطلتها المغنية العتيقة «وداد» قد أمهلها القدر مشاهدة وثائقي «لحظة أيها المجد»، قبل موتها. السؤال كان عن مشاهد «السحاق».


لم يشغل بال أحد أداء الممثلين في فيلم مريمام الحج «ما شفت الحرب في بيروت»، وذلك الصمت الموجع الذي يسيطر على شخصيات، تبدو عاجزة، وعالقة في مكان عصيّ على الفرح، كما هي المدينة، كما هي بيروت.


السؤال كان عن افتقاد الحرب، الاشتياق إلى الرصاص والجنون والشتائم، كما في «ويست بيروت». لم يحاور أحد من الشباب علي حمود، صاحب «عن أولئك الذين رحلوا»، الذي يتعرض لحكايات الضحايا المدنيين الذين قتلوا «صدفة»، أثناء تواجدهم أمام مواكب التفجيرات السياسية.. لم يسأله أحد عن كادرات فيلمه المصوبة على الشوارع، الخاوية المذعورة حد الضجر.


ولم تخل «المواجهة» الوجيزة مع جيل طارازي، صاحب «بكرة ستة ونص» من عقدة اللبناني المهاجر، المتواجد في الصالة، الذي ظن، برغبة اختزالية فيها الكثير من الـ «إيغو»، أن المخرج ينتقد الشباب اللبناني الذي «ترك البلد»، لمجرد أن عبارة «مفكر حالك تارك البلد، رح تصير مهم برا»، وردت على لسان صديق المسافر.


من هنا، من ذلك الجو، الذي يعاين وعي الجمهور السينمائي اللبناني، بوسعنا أن نفتح جدالا حول «الصناعة السينمائية» في لبنان. ذلك السؤال الذي وجد المخرجون الأربعة أنفسهم عاجزين، أو ربما غير راغبين، بالإجابة عنه. تراهم فكروا للحظة: مأزق السينما في لبنان في أهم ملامحه، قابع في شخصية الجمهور واشتهاءاته وقضاياه ومكيانيزم التفكير الشعبي لديه؟


هذا جدال معقد، وغير مغر، تحديدا في لحظة الاحتفاء بأربع طاقات جديدة، عساها تضخ دماء جديدة إلى شرايين ثقافية، ملأها الشحم وهددها التجلّط.


وداد الذي «قبّلها» المجد و..غادر


«كان جدي يملك ربع روسيا.. لقد حوربت لأنني يهودية الجذور.. طلب من محمد عبد الوهاب أن أغني أغانيه، فقلت له «سبني أفكر».. أنا أفضل من أم كلثوم في تتبع الإيقاع وطواعية الغناء.. أراد عاصي الرحباني أن يشكل مع فيروز ثنائيا غنائيا.. أغنية يا بهية كتبت خصيصا للتغزل في عيون أمي». هي بعض الشهادات. ربما تحتمل النكتة، أو الألم. السخرية، من القدر واللعنة والأحلام العاجزة عن التحقق.


تحتمل نعي المجد الزائل، والاعتزاز به في آن.. تلك الشهادات هي كلام لمطربة لبنانية عاشت مجدا غنائيا بدءا من خمسينيات القرن الماضي. اسمها وداد، جايلت صباح ونور الهدى، وكتب له ولحن أعظم شعراء الشام والبر المصري. لكن «لعنة الحظ» أصابتها.


ذكورية الأزواج وتسلطهم (بينهم أبوها، ثم توفيق الباشا الزوج)، يهودية المنشأ (إذا طاب لنا أن نصدق شهادتها)، سذاجة فنية (كالتدلل على محمد عبد الوهاب).. كلها أسباب ساهمت في عدم شيوع اسمها، على مستوى جماهيري، مشابه لما حصدته صباح، على سبيل المثال، رغم أن من يعرف «ريبرتوار» أغاني وداد، يثق جدا بالمتربة الرفيعة التي تقف فيها على مسرح الطرب، فهي ذات صوت مقتدر، فيه من قوة أم كلثوم وفايزة أحمد، ودفء نجاة الصغيرة وفيروز، والدلع الشعبي لسميرة توفيق وصباح.


وفي سنواتها الأخيرة، وكما هي حال الكثير من مبدعي العالم العربي، احتجبت وداد، مثقلة بـ «ظلم» التاريخ، وعجز الزمن. ثم طرقت أبو شقرا بابها:«أردت أن أظهر، بطريقة بعيدة عن الكليشيهات، سيرة هذه المغنية العظيمة التي لم ينتظرها المجد. مر أمامها، احتضنها، قبلها، ترك لها وردة، ظنت أنه باق تحت وسادتها طوال العمر، لكنه سرعان ما غادرها»، تقول المخرجة المقيمة في شمال فرنسا، حيث تدرس السينما في استوديوهات «فرسنوي» التي مدتها بالخبرة والتقنيات لانجاز الفيلم.


المخرجة الشابة في حافظتها حتى اليوم «فيلمان ونصف» على حد قولها، وتحضر لفيلم تحريك جديد، ولمواجهة ورثة وداد (توفيت قبل أن تشاهد الفيلم لكن المخرجة تفترض أنها كانت لتحبه) في المحاكم، بتهمة «التشويه والتعرض إلى الجذور اليهودية».


تقول أبو شقرا: «قدمت ما هو أعمق من ذلك بكثير، ولا تعنيني هذه التفاصيل. أردت أن أوجه رسالة احتفاء إلى واحدة من أهم السيدات المبدعات في تاريخنا الغنائي الشرقي. أن ارتحل مع أحلامها، أحلامنا، وكلمات أغانيها الجريئة وألحانها القوية. أردت معايشة سينمائية لخيبات المبدع العربي، التي لم تنقطع يوما». جاء فيلم أبو شقرا مؤثرا، وسيتسع مجال آخر لاستعراض تقنيته ومضمونه.


أن تموت لأنك تتمشى في بيروت


«نشرات الأخبار تمرّ قرب الضحية، تختزل حياتها إلى رقم. أردت أن أقول أن لتلك الأرقام حيوات، أحلام، قصص، لم تنته لمجرد أنهم صاروا أموات، ونحن لا زلنا أحياء. كل واحد منا معرض لتلك الصدفة في بيروت. أن يموت، لا لشيء، سوى لكونه مرّ في بيروت». لكأن منطق فيلم علي حمود «عن أولئك الذي رحلوا»، يبحث في هذا الحال. فيلمه، الذي ربما احتاج إلى تقنيات تصوير أكثر جودة (لكن مأزق تمويل أفلام الشباب يظل التحدي الأكبر)، يثير الفزع.


نحن نستمع إلى شهادات محكية، من دون صور، لأهالي ضحايا شبان، قتلوا في إثناء مرورهم في مناطق التفجيرات البيروتية التي غمرت دماؤها شوارع بيروت، بدءا من اغتيال رفيق الحريري، وما تلاه من اغتيال سياسيين وشخصيات عامة. «المدنيون، كانوا هناك أيضا. مروا من هناك وقتلوا، لا نذكرهم كثيرا في الإعلام. أردت أن أنتصر لهم، لحياتهم وموتهم».


ذلك الشاب الذي يضج حياة، ويدحرج الكرة ليل نهار، وينقذ ممثلة اعلانات كاد بحر بيروت أن يبلعها، ويستعد لمواجهة المنتخب الهندي، ويبني أحلامه بالحماسة والحب.. مات في ملعب نادي النجمة، مع أصدقائه، أثناء تفجير موكب سياسي صودف مروره قرب جدار النادي. تلك الحبيبة، جاءت من ألمانيا، لتتزوج «ابن الحلال»، وتستقر في لبنان الذي لم تعرفه في طفولتها، فـ « قتلها في عز الشباب».. قصص كثيرة رواها الأهالي وكاميرا حمود التي ركزت على شوارع بيروت طوال الفيلم، الشوارع حيث الموت المخبأ للأبرياء.


إضاءة


ضمن فعاليات المهرجان عرض نادي المشهد السينمائي، تحت عنوان «الليلة اللبنانية» أربعة أفلام قصيرة من لبنان خلال أمسيتين متتاليتين انتهت مساء أمس، سلطت الضوء على القدرات الإبداعية لدى بعض أبرز المخرجين المخضرمين، وكذلك الصاعدين من لبنان.


وأوضح مسعود أمرالله آل علي المدير الفني ل«دبي السينمائي»، أن التعاون مع «نادي المشهد السينمائي» لإطلاق أول برنامج مخصص للسينما اللبنانية تحت اسم «ليلة لبنانية»، يعكس حرص المهرجان الدائم على المبادرات التي تعزّز التواصل المجتمعي.


ليست هناك تعليقات: