٢٠٠٩/١١/٢٤

الواقع المغاير - دخول الانيميشن في صناعة الوثائقي

هل بالامكان صناعة فيلم وثائقي أنيميشن ؟ و هل لهذه التقنية التأثير الاقوى من صناعة فيلم وثائقي بالطريق الكلاسيكية المعروفة ؟ لعل هذين السؤالين يمكن الاجابة عنهما في سياق البحث التالي و عن دور بعض الافلام التي ظهرت في فترات زمنية مختلفة.

ًWaltz with Bashir

هذا الطرح لم يعد جديداً على الاطلاق ، وخصوصاً عندما نعلم أن في السنة الماضية ترشح فيلم المخرج آري فولمن ( Ari Folman) "الرقص مع بشير" (Waltz with Bashir) لنيل جائزة الاوسكار ، و قد نال من بعدها شهرة عالمية و بقي محل جدال واسع . و هذا الفيلم يأخذ مادة واقعية (بغض النظر عن القراءة الاسرائيلية لهذا التاريخ الدموي للدولة المغتصبة و وحشيتها في الحروب التي شنتها) في محاولة لاسترجاع ذاكرة جنود خدموا الاجتياح الاسرائيلي للبنان في 1982، و محاولة المخرج ، الذي يمثل نفسه كشخصية رئيسية يعاني من فقدان ذاكرة تلك الفترة الزمنية الحالكة الظلام و محاولاً استرجاع ما فاته عبر الالتقاء بأصدقائّه الذين يروون له تفاصيل ما جرى معهم في بيروت وصولاً الى مجزرة صبرة وشاتيلا .

من هنا ، و كوننا اعتدنا على مشاهدة أفلام الانيميشن المتخيلة لعالم من صناعة كتاب سيناريو و فنانيين و صناع الغرافييك في خلق شخصيات اعتدنا حضورها، وعليه فإننا كمتلقين لدينا الشغف ذاته لاستقبال الصور المتحركة بدون أية عوائق ، و لنتلقى تفاصيل جديدة تغني مخيلتنا. وحقيقة الامر أن الصورة المتحركة المرسومة ببراعة لديها الاثر الكبير في جذبنا للمادة التي وان تم معالجتها باسلوب الوثائقي قد لا يكون لها الصدى ذاته من التأثير.

ولتعريف أكثر دقة للفيلم الوثائقي الانيميشن فهو أي فيلم تحريك يتناول مادة غير متخيلة . و لتحقيق ذلك يتم الاستعانة بمواد مسجلة لمقابلات و أصوات متنوعة ، و يمكن أيضاً أن تكون كإعادة لخلق الحدث الحقيقي بصورة جديدة. و هذا يتيح المجال لاشكال و اساليب متنوعة . بعض الافلام قد يستعين بالتسجيل الصوتي لمقابلة ما و يعيد صياغة الفيلم كيفما شاء لاعطائه بُعداً آخر. ويمكن أن تكون تلك الافلام المتحركة تتناول شخصية ما أريد من خلالها سرد تجربته بصورة مشوقة. أما الباقي فهي اعادة تركيب لحدث ما، تاريخي أو شخصي ، عن طريق رسم متقن لهذه المادة.


بمراجعة بعض المصادر المتوفرة على شبكة الانترنت، يمكننا معرفة أوائل تلك الافلام التي ظهرت في البدايات الاولى للسينما و هو فيلم " غرق لوسيتانيا" (The Sinking of the Lusitania) لسنة 1915 للمخرج وينسر مكاي (Winsor McCay). هذا الفيلم (و الذي تسنى لي فرصة مشاهدته على اليو تيوب ) يعيد رسم حادثة غرق سفينة الركاب البريطانية التي تعرضت للغرق على أيدي غواصة المانية وتسببت بغرق 2,000 راكب كانوا على متنها، مما دفع بالولايات المتحدة لدخول الحرب العالمية الاولى. و أتى هذا الفيلم متسلحاً بالرسوم المتحركة لوصف عملية الاعتداء على القارب. فعمد المخرج مكاي للاستعانة بالمادة الموثقة لرسم حالة الهلع و الرعب التي عاشها الضحايا أثناء غرق السفينة . وهنا كان التأثير على الجمهور فعال مما لو اكتفى المخرج بعرض بعض المقابلات و المواد الارشيفية المصورة لتلك الحادثة. في الاصل لم تتتوافر أي مادة صورية للحادثة ، فتم الاستعانة بالانيميشن ليصور الحدث و ليقرب أكثر الى بعض القصص المتفرعة عن غرق السفينة بصورة دراماتيكية. و جاءت ردة فعل الجمهور مأثرة نظراً لقوة المشاهد التي كانت حاضرة أمامهم.

مخرج الانيميشن بول فيستر (Paul Vester) لديه تجربة مميزة في هذا الحقل، فقد عمل على أخذ عدة مقابلات لاشخاص يعتقدون أنهم قد تعرضوا للاختطاف على أيدي مخلوقات فضائية و وثقها بفيلمه الانيميشن "المختطفون" (Abductees - 1995). هذا و قد ساهم عدد من الفنانين في تركيب المشاهد ، مما خلق تنوعاً واضحاً في الاسلوب و التقنية. فكان لكل شهادة اسلوبها الفني المميز عن مثيلتها و جاءت التجربة مأثرة وقوية. فكان لكل تجربة شعورها و لونها المميز معطياً زوايا و أبعاد لصوتيات كل شاهد و تجربته مع الخطف. و بهذا اتاح للمتلقي حرية تفسير تلك التجارب و تحليلها ان كانت صادقة أم لا . في حين أن للانيميشن الفضل في تقريب التجارب المختلفة لأولئك الاشخاص و جعلها ممكنة و اعطائها بعدها الشخصي جاعلاً من تلك التجارب سليلة الذاكرة و ميزة تخص الفرد .

تجربة المخرج ريتشارد لينكلاتر (Richard Linklater) مع الانيميشن الاول له في "ايقاظ الحياة " ( Waking Life - 2001) ، جاءت مغايرة للسائد حيث اعتمد على تقنية الروتوسكوبينغ (Rotoscoping) - وهي تقنية يتم خلالها تصوير جميع اللقطات على كاميرة ديجيتال و من ثم يتم الاستعانة بفريق من رسامي الغرافيكس و الانيميشن لاعادة رسم و تلوين اللقطات كلاً على حدا.
و النتيجة فيلم متخيل لشاب يعيش بين اليقظة و الاحلام و يجول لاستطلاع أراء من يلتقيهم حول أمور تتعلق بالواقع و الاحلام ، الارادة و معنى الحياة. الاصوات المشاركة بالفيلم هي لممثلين معروفين كالممثل ايثن هوك (Ethan Hawke) و جولي دبلي (Julie Deply). و بما أن عدد فناني الغرافيكس المشاركين بالفيلم كان كبيراً فكذلك جاءت مشاهد الفيلم لتظهر التنوع في الاسلوب و الجماليات، مما ساهم في خدمة السيناريو الذي يدور ما بي الواقع و السريالية و ارهاصات الفلسفة و تسائلاتها: هل ما نعيشه هو مجرد حلم أم واقع ؟

بول و ساندرا فيرلينغر (Paul and Sandra Fierlinger) كان لديهما اللمسات الخاصة في مجال الوثائقي المتحرك. ففي فيلمهما "مقتبس من الذاكرة " (Drawn from Memory ) في عام 1991 ، يروي بول فيرلينغر سيرته الذاتية عندما كان ابناً لدبلوماسي تشيكي خلال الحرب العالمية الثانية. استعمل خلالها تقنية فنية متحررة و جميلة في رسم معالم ذاكرته بشكل شخصي. و كذلك انسحبت أعمال الثنائي في الوثائقي الانيميشن لتتناول مواضيع عدة كالادمان على الكحول، الكلاب ، وحياة لاشخاص عاديين .

في اوروبا الشرقية، التي كانت خاضعة آنذاك للحكم الشيوعي ، درجت العادة بين مخرجي أفلام الانيميشن على صناعة أفلام تجافي الواقع و خاضعة للكثير من التفسيرات. وهذا بالطبع يعود الى ميولهم الى نقد تلك الانظمة و في نفس الوقت التفلت من قيود الرقابة. و بالنتيجة جاءت تلك الافلام غاية في الابداع و ذات حبكة روائية مبتكرة. و هناك بعض الامثلة عن معالجات استعارية لتوصيل رسائل سياسية من خلال بعض الاعمال التي قام بها المخرج التشيكي جيري ترنكا (Jiri Trnka) ، الذي اشتهر كصانع للدمى ، فنان غرافيكي ، صانع أفلام متحركة و مخرج ، و كذلك أشتغاله على تقنية الحركات المتوقفة للدمى (stop motion puppet animation). و قد اشتهر بفيلمه "اليد " ( - 1965-The Hand) . في هذا الشريط يقدم حالة المقاومة للنظام الشمولي في شخصية دمية تلتقي بيد انسان. تقوم اليد تلك بالطلب من الدمية في عمل تمثال يجسد حالها. ترفض الدمية ذاك الطلب. في بداية الامر تحاول اليد اقناع الدمية بالامر، و عندما تجد تعنت الدمية ، تعمد الى استعمال القوة مما يؤدى الى موت الدمية و بالتالي ترتيب مراسم الدفن للضحية.
بعد وفاة الفنان و المخرج جيري ترنكا سنة 969 1، لم يبصر فيلمه هذا النور الا بعد انقضاء عشرين عاماً.



في فيلميهما " مع و ضد" (Pro and Con ) لعام 1992 ، جوان بريستلي و جون غراتز (Joanne Priestly mand Joan Gratz) تعاونا لسرد قصة قصيرة عن علاقة تربط بين حارس و سجين . تم خلالها استعمال انيميشن عبر تغطية مادة الطين على الزجاج و تحريكه لخلق دمى ذات ابعاد ثنائية ، مرسومة و ملونة وفقاً لحركتها المتتالية و كل ذلك لسرد تجربة الحارس داخل اسوار السجن. التنوع في استخدام التقنيات جعل من كلتا التجربتين ، للحارس و السجين ، مختلفتين من حيث المعالجة و الاسلوب.

مثال آخر للمخرجة جين ساكس (Jen Sachs) في " النمرة المخملية " (The Velvet Tigress ) ، حيث يعتمد باسلوب شكلي على اعادة صياغة لمحاكة جنائية حدثت في سنة 1930. و كذلك تطرقت الى الكيفية التي تعاطى بها الاعلام مع تلك المحاكمة.
عمدت المخرجة الى استعمال صور من ملصقات الجرائد و مزجها مع الغرافيكس لوضع تخيل للصورة العامة التي كانت تحيط بتلك المحاكمة. وأتى الفيلم ليقدم مادة ذات طابع مليئ بالمعلومات ، و مغناطيس يجذب اليه المشاهدين نظراً لتقنية الصوت و الصورة.

The Kid Stays in the Picture

هذا و قد تم الاعتماد على الانيماشين في عدد من الافلام الوثائقية المعروفة. فكل من المخرج ايروول موريس (Errol Morris ) و روبرت ايفنس (Robert Evans) ادخلوا المؤثرات البصرية لخلق مساحات متحركة و ذات شعور سريالي. يعتمد المخرج ايروول موريس على المقابلات و يدخل معها لقطات حية مليئة بالحركة و معتمدة بالاساس على تتابع زمني لصور فوتوغرافية و تحريك غرافيكي و هذا ما نجده في فيلميه "ضباب الحرب " (Fog of War) و "سريع، رخيص و خارج السيطرة" (Fast, Cheap and Out of Control). أما روبرت ايفنس في " الفتى يبقى في الصورة " (The Kid Stays in the Picture ) يعمد الى تركيب الصور الفوتوغرافية في خلفيات متنوعة. و تلك الافلام قادرة على جذب المشاهد نظراً لاحتوائها على عناصر قوة في الشكل و الاحساس تعمل على اغناء و دعم المقابلات المسجلة. و عليه فإن هذه المواد المستحدثة تكسر الجمود الذي قد تحدثه المقابلات الطويلة و تصبح ركناً داعماً و محركاً لمسار الفيلم.

Ryan

لكن اليست فكرة الوثائقي الانيميشن تشكل بحد ذاتها تناقضاً ؟ كيف لمادة مصنعة أو مزيفة للواقع قد تنتمي الى سرد أو قصة موغلة في الواقع ؟ كريس لاندرث في ريان (Ryan) ، الذي اسهم بشكل كبير في ابراز مفهوم الوثائقي الانيميشن الى العيان ، لديه جزء من الاجابة : هي تتكلم الحقيقة (بعضها شخصي ) عن موضوعها و عن مُخّرجها من خلال عمل متحرك غير حقيقي للحدث و الشخصيات.

من ناحية أخرى عزز بعض المخرجين - الفنانيين تلك النظرية الشكلية ، فكان والس و غروميت سباقين في تسخير سلسلة ناجحة لافلام قصيرة تحت عنواني "مقاطع محادثة" (Conversation Pieces) و " كلام مجدول " ( Lip Synch) . و النسخة الحديثة تختصر هذه التقنية : استعمال تسجيلات لاصوات أناس حقيقين و أماكن فعلية كمأسس لتلك الافلام . تم من بعده اعتماد تقنية الحركات الجزئية ( Stop Motion) للدلالة على احاسيس الاشخاص و الاماكن المسجلة ، و ان أمكن تصوير الظهور الفعلي في سياق الحدث.

التجريب في هذا المجال رافق المخرج بيل بيري (Bill Perry) في " راحة الحيوانات " (Creature Comforts) حيث اعتمد على الناحية الصوتية لتسجيلات مأخوذة داخل حديقة الحيوانات حيث يتدحادثون فيما بينهم عن حياتهم خلف القضبان. و هذا العمل التجريبي يأخذ حيزاً رمادياً ما بين الوثائقي و الانيميشن.

Grave of the Fireflies

أما " قبر اليراعات" ( 1987 , Grave of the fireflies) للمخرج الياباني ايساو تكاهاتا (Isao Takahata) فيحمل الكثير من التأويل ، فهذا الشريط الانيميشن ( انتاج شركة توهو اليابانية الرائدة في انتاج و توزيع الافلام) يشكل فاصلاً ضبابياً ما بين الروائي و الوثائقي. يدور حول القصة الشبه ذاتية للكاتب - المغني - القاص أكيوكي نوساكا (Akiyuki Nosaka) الذي نجي و أخته الصغيرة من القصف الذي تعرضت له مدينة كوبي اليابانية أبان الحرب العالمية. الثنائي يجدا نفسيهما في أحد القرى النائية عرضة للحرمان و الجوع الشديد مما يؤدي الى موتهما سوياً نظراً لسوء التغذية. يعود بنا الفيلم الى تلك التجربة عبر شبحي القصة و الذي يروي أكيوكي تفاصيليها.
الفيلم مليئ بالمشاعر ، و اللحظات المفاجئة بقسوتها ، في حين يشكل علامة فارقة في تحقيقه : القصة لم تأتي على تجسيد واقعي للاحداث (في حين أن أخت نوساكا قد ماتت فعلياً ، في حين نجى هو ) ، لكنها غرفت من واقع تلك التجربة للاخ و أخته و قدمتها بشكل مختلف.

من جهة أخرى، و من نظرة محايدة في صناعة الوثائقي الانيميشن ، استطاع الفنان دينيس توبيكوف أن يحدد معالم ذالك الحياد حيث برهن في فيلمه "صوت أمه " (His Mother's Voice - 1997) على نقل قصة فقدان والدة لابنها عن طريق أعطائها أبعاداً اضافية . كيف فعل ذلك ؟ تروي أحد السيدات كيف أن ابنها اصيب بطلاقات نارية و نقل على أثرها الى المستشفى وعجز الاطباء حينها عن انقاذ حياته . عمد دينيس توبيكوف على استعمال التسجيل الصوتي للسيدة مرتين، في كل مرة اعتمد على اسلوب مغاير في الانيميشن و في وجهة النظر. و نظراً لذلك ، فإن المشاهد يرى القصة ذاتها تتكرر بشكل مختلف . النتيجة ببساطة هو ان القصص المروية حمالة أوجه عدة . و هذا بحد ذاته جرئة في تحدي المشاهد و وضعه أمام احتمالات و تفسيرات متنوعة.

لعله من المفيد النظر الى الاشكال المتنوعة للافلام اليوم ، سواءاً أتت من روسيا ، جمهورية التشيك ، النروج ، كندا أو الولايات المتحدة و حتى المكسيك ، فهي تطرح أسئلة كثيرة و تقدم أشكالاً و أنماط جديدة دخلت منذ مدة طويلة في أسلوب التعبير بشكل جمالي و فني راقي لتقديم المادة بشكل جديد و مستحدث بعيداً عن التكرار . هي متحررة من كل القيود و متحركة بحثاً عن الواقع في اطار متخيل . و بالتالي أليس من حق المخرج الذي لمعت لديه فكرة ذات يوم أن يتلاعب بالمادة الوثائقية و يقدمها باسلوب حديث و مبتكر من دون أن يشذ بعيداً عن الحقيقة ؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملاحظة : يمكن مشاهدة معظم تلك الافلام المذكورة على Youtube .

* تم الاستعانة بالمراجع التالية لكتابة هذا المقال :
- Frames Per Second Magazine : " The Truth in Pictures " , by Shiela Sofian
-Cineaste Magazine - Vol XXXIV, No2

+ + اذا كان لدي أحد من القراء اضافات أو معلومات عن مواضيع تخص هذا المقال - أو حتى أفلام لم أتي على ذكرها - يمكن اضافتها و التعليق عليها.

هناك تعليق واحد:

Unknown يقول...

شكرا على البحث الرائع