وذات يوم قررت أن أترك التلفزيون وأغادر تاركاً ورائي سنتين لم تقدم أو تأخر كثيراً في حياتي. ذات يوم أتت لي فكرة كتابة برنامج عن السينما بكل جدية للتلفاز . لم يكن الهدف من البرنامج التعاطي بميوعة مع الموضوع ، لانني ملتزم سينمائياً وسأبقى كذلك ما دمت حياً. لم يكن الهدف منه التركيز فقط على الممثل أو الممثلة بل تحديد دور المخرج و كاتب السيناريو و الخلفيات الاخرى في الفيلم . المشكلة كانت في تعاطي التلفزيون مع الحلقات ، لانه صاحب الانتاج ، وهذا خطأ ، لان اسناد العمل الى شركة انتاج متخصصة قد يحقق نتيجة أفضل ان على صعيد التصوير ، الاخراج و نوعية المنجز. الحلقات كانت عبارة عن مقدمة البرنامج ( حسنة المظهر و تمتلك الثقافة اللازمة و ليست من أصحاب التبرج و الادعاء فقط. و لانني لست مع التميز الجنسي هنا ، مع أن الاختيار لا يعود لي فقط، و لكنني اعتمدت على معيار المعرفة و الثقافة لا على الجنس) تجلس في غرفة بروجيكتر و خلفها أفيش الافلام و باكورات قديمة و تتحدث عن فيلم السهرة الذي سيعرض بعد قليل و أحياناً تنتقل المقدمة الى صالة عرض حقيقية لتقديم الحلقة. خلال الحديث عن المخرج (ة) أو الممثل (ة) ننتقل الى أحد أعماله(ا) القديمة و نشاهد بعض اللقطات ، وبعدها يتم عرض فيلم السهرة.
اختيار فيلم السهرة لم يكن سهلاً نظراً لعدة عوامل : القائمة طويلة لكن ليست كل الافلام الجيدة ( مثلاً " سفر الرؤيا" للمخرج الرائع فرانسيس فورد كوبولا ناظلت من أجل الحصول عليه لكن دون نتيجة ) يمك الحصول عليها نظراً لان بعض الافلام لا يحق لها أن تعرض فضائياً بينما يمكن عرضهآ محلياً أو العكس ، هذا من جهة ، و من جهة أخرى ليست كلها في جعبة الموزعين و اعطاء حقوق عرضها قد يستغرق شهوراً بل سنة أو سنتين أحياناً ، هذا بالاضافة الى تراوح السعر من فيلم الى آخر. الا أنني استطعت أن أجد الافلام القادرة على تحقيق الغرض من البرنامج. ثلاثة أفلام ، على ما أذكر ، تم عرضها على الشاشة للمخرج مارتن سكورسيزي من بينها " شوارع قاسية" (١٩٧٣)، " عصابات نيويورك" (٢٠٠٢) و "ملك الكوميديا" (١٩٨٢) ، و كذلك فيلم لرابورت آلتمان ، وآخر للمخرج جون بورمان و البريطاني مايك لي ، وصولاً الى فيلم "سوف تحملنا الرياح " (١٩٩٩) للمخرج الايراني عباس كيروستمامي ، الذي استضفت يومها الناقد و المخرج السينمائي فجر يعقوب ليتحدث عن المخرج و عن كتابه " عباس كياروستامي : فاكهة السينما الممنوعة " .
لكن البرنامج لم يدم طويلاً قبل أن يتحول الى مهزلة من الامبالة سواءاً من مخرج الحلقة ( ويعيني على البطاطا) ، و بعد فترة من الوقت من الادارة ، مع أنه كان يحقق نسبة مشاهدة عالية مقارنة مع برامج "الهشك بشك " (شكراً للريموت كونتول و لقناة كوكب الحيوانات) ، اضررت أن أنسحب بهدوء و كذلك فعلت مقدمة البرنامج.
في بعض الاحيان ، قد يحطم التلفزيون مواهبك و يحولك الى مجرد انسان آلي لا يملك قراره و تشعر معه و كأنك تتحرك داخل صندوق مغلق ، و في بعض الاحيان قد يستفيد من مواهبك ويواكب تطورها. هناك مخرجين و كتاب سيناريو و حتى منتجين انطلق نجمهم من على شبكات التلفزة. المخرج سيندي لوميت أتى من التلفاز الى السينما وليس العكس ، وهناك الكثير من المخرجين الذين حققوا أفلام للتلفزيون (لا يوجد أي شيء من هذا في عالمنا العربي الذي لا يقيم اى اعتبار لمثل هذه الاعمال) بشراكة بين شبكة التلفاز و شركات الانتاج السينمائية. كذلك فعل بعض كُتاب السيناريو الذين انتجوا لشبكات تلفزيون الكيبل في أميركا ، أوروبا و حتى أسيا ، الكثير من الاعمال التلفزيونية التي تشبه بحرفيتها الافلام السينمائية . هل هناك من لم يشاهد مسلسل المافيا " سوبرانوز" لكاتب النصوص و منتج بعض الحلقات ، ديفيد شايس ؟ كذلك فعل آلن بول في المواسم الخمسة لمسلسل " ستة أقدام تحت الارض " لعائلة تمتلك منزلاً متخصص بمراسم الدفن و عن علاقة الموت والحياة بكل فرد من أفراد الاسرة. و شبكة التلفزيون البريطاني (بي بي سي) انتجت مسلسل " المكتب" الذي حقق نجاحاً باهراً امتدت اصدائه الى الولايات المتحدة بسبب موضوعه الذي يدور حول أزمات العمل و الموظفين ، وقربها الشديد من تلك الموجودة في المدن الامريكية الكبرى . و الكثير الكثير قد يقال في هذا المجال.
هناك فيلم يستحضرني الآن، لرمزيته و ليس الا، هو فيلم المخرج سيدني لوميت " الشبكة" (١٩٧٦) من تمثيل فاي دانواي ، بيتر فينش و روبرت دوفال ، في فيلم ساخر يدور حول محطة تلفاز تصارع من أجل الحصول على أعلى نسبة من المشاهدة تدفع بمقدم الأخبار هوارد بيل ( بيتر فينش) الى الحافة حين يأخذ بتذمره من على شاشة التلفاز استثارة اعجاب مدير المحطة ( روبرت دوفال ) عوضاً عن اتخاذه اجراء بحقه. وفي واحدة من أشهر الاقوال في تاريخ السينما، يقف هوارد من علي كرسيه و يصرخ " أنا غاضب كالجحيم ، و لن أتحملها بعد الآن " . هذا الصراخ يثير الجماهير التي تخرج الى نوافذها مرددة غضب هوارد. وهكذا يصبح هوارد وبرنامجه من أكثر البرامج شهرة على الاطلاق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق