٢٠٠٩/٠٥/١٧

نفتقدك حقاً يا آلبير


Albert Lamorisse

سألني صديق لي منذ مدة ان كنت قد شاهدت فيلم " البالون الاحمر " ، و ذكرت له انني لم اشاهده و سأعمل للبحث عنه لشرائه و مشاهدته في أقرب وقت . قال حينها انك اذا لم تشاهده فانك تفوت عليك الفرصة الذهبية . ووعدته حينها بأنني سأبحث عنه حتى أجده و كان وعدي بذلك في محله.

كنت قبلها بسنوات قد قبلت دعوة لحضور مهرجان فجر السينمائي في طهران و كانت لي فرصة مهمة لملطالعة عن كثب على أحدث الافلام الايرانية و العالمية في هذا المهرجان المهم. و خلال تلك الايام دعاني أحد الاصدقاء الى منزله لتناول الاكل الايراني و قد استمتعت حقاً بتلك الاطباق الشهية و من بعدها شاهدنا فيلماً وثائقياً من أجمل ما رأيت . الفيلم عنوانه " رياح الاحبة " ( عنوانه بالفرنسي : le vent des amourex . و هو من انتاج 1970 ) و هو يحكي تاريخ ايران منذ القدم الى الايام التي سبقت الثورة في اسلوب شعري اسر في الجمال. يبدأ الفيلم ، على ما أذكر، في السماء حيث تتجمع الرياح و تعصف بالارض من اسفلها . تهب الرياح على قطعان الماشية و المزارعين و تنتقل بين الهضاب و الوديان على ايقاع موسيقى فارسية تلائم الصور المتسلسلة ، هذا و يخرج صوت لرجل يروي، بصوت جشن ، قصص و حكايات للاجيال الاولى بطريقة شعرية غنية . الصور تنساب بتحرك مستمر بفعل اللقطات المأخوذة من على متن طائرة هيليكوبتر طوال الوقت ، لان تلك المشاهد المتطايرة تدل على الريح العاصف على الامة.

علمت عندها ان المخرج الذي يقف خلف هذا الابداع ليس سوى المخرج الفرنسي آلبير لاموريس (Albert Lamorisse) . و علمت ايضاً أن هذا الفيلم كان بداية النهاية المأساوية لهذا المخرج الفرنسي الراحل ، حين فُقد السيطرة على طائرة الهيليكوبتر فوق السد المائي و تهاوت الطائرة لتسطق و يلاقي الجميع حتفهم في أخر مشهد من الفيلم . وبعد عدة سنوات على المأساة عادت زوجة المخرج لتكمل الفيلم معتمدة على مدونات الانتاج التي خلفها المخرج و تم عرض الفيلم سنة 1987 . لاق الفيلم استحسان الجميع و ترشح حينها لجائزة اوسكار عن أفضل فيلم وثائقي كان يستحق الفوز بها.

شهرة المخرج آلبير لاموريس أتت فعلياً من فيلمه القصير " البلون الاحمر " (Le Balloon Rouge) الذي انتج سنة 1956 و الذي اذهل الجميع بعبقريته و حصل على جائزة البالم دور في مهرجان كان و الاوسكار في نفس السنة و توالت الجوائز تنهال على الفيلم من كافة الجهات .

البالون الاحمر يبدأ بالموسيقى الجميلة التي تصاحب الفيلم منذ البداية و حتى النهاية ، لدي خروج باسكال ، وهو باسكال لاموريس ابن المخرج ، في الصباح الباكر للذهاب الى مدرسته و يلفت انتباهه وجود بالون أحمر مربوط بعمود للنور . يصعد باسكال و يفك رباط البالون و يخرج به الى الساحات العامة لشوارع باريس الجميلة . لكن شيئاً غير اعتيادي يربط تصرف هذا البالون و هو أن البالون الاحمر ذاك قادر على التفكير بذكاء . و سرعان ما يصبح هذا البالون صديق باسكال الحميم لا ينفك يفارقه . عند المساء و حين يأوي باسكال الى منزله ينتظره خارج المنزل ، و كذلك عندما يحضر باسكال حصصه المدرسية يقف بانتظاره على الشباك . علاقة الصداقة تلك تجلب المتاعب للطرفين ، فناظر المدرسة يتضايق من البالون حين يجتاح هدوء الفصل و يعلو صراخ التلاميذ مرحاً ، و كذلك الامر عند أولاد الشوارع الذين يثير حسدهم باسكال و بالونه الذكي و يأخذوا بملاحقتهما في أزقة الشوارع .

و قد تكون نهاية الفيلم من أكثر النهايات تأثيراً في تاريخ السينما حين تتجمع البالونات المتطايرة من ايدي الجميع لتحمل باسكال عالياً في سماء باريس .

لم يضطر المخرج لاموريس للاستعانة كثيراً بالحوار على طول الدقائق الثلاثين من مدة الفيلم ، فقد ترك للحركات الجسدية و الايماءات في التعبير عن مجريات الفيلم و عن العلاقة الصادقة المتبادلة ما بين الفتى و البالون من جهة و ما بينهما و المحيط من جهة أخرى.


من تلك التجربة و بالمقارنة مع أعماله السابقة ، يثبت المخرج لاموريس مدى عمق نظرته المبدعة في الجمع ما بين الشعر الانسيابي و الرواية المصورة بحرفية متناهية . علاقة الصداقة ما بين باسكال و البالون الاحمر و المشاكل المواكبة لها تترد آصدائها ايضاً في عمله الذي سبقه بثلاث سنوات في " الماني الابيض " (White Mane و الماني هو فصيلة من الفرس ) سنة 1950 . هذا الفرس الابيض تجمعه الصداقة بالفتى فالكو الذي يعيش مع جده ( هذا الامر يتكرر مع باسكال الذي يعيش مع جدته في أحياء باريس. و قد يكون هذا الامر عائد الى كون المخرج قد ترعرع في منزل جديه! ) بعد هروب الحصان من مطاردة رعاة البقر له في الجانب الجنوب الشمالي لفرنسا.
فالكو يلتقط الحصان و يسحبه خلفه بعناد في المياه و الوحل لان فالكو صادقاً بانقاذ الحصان من براثن الاسر و هكذا يبادله الحصان ذلك الشعور و يصبحا صديقين .

لسنوات عدة عُرض فيلم البالون الاحمر بنسخ ال 16 ملم في مكتبات المدارس و الجامعات في الولايات المتحدة ليصبح بذلك واحداً من أكثر الافلام مبيعاً بنسخته الغير تجارية في تاريخ أميركا. و قد عرض على شاشات التلفزة الفرنسية لسنوات عدة و كذلك في أرجاء العالم بتلك النسخ و بقي حافراً في الذاكرة الجماعية لكثير من الذين شاهدوه عند الصغر ( قد أكون شاهدته عند صغري و لكن ذاكرتي لا تسمح لي بالعودة كثيراً الى الوراء). و منذ سنة ظهر فيلمي " البالون الاحمر" و "الماني الابيض" على اقراص الفيديو و أصبحا في متناول الجميع . و هكذا حصلتُ على النسختين و شاهدتهما كما وعدت صديقي الذي اندهش لهذا الاصدار.

قدم المخرج التايواني سياو-سين هو قبل سنتين فيلمه "رحلة البالون الاحمر " ( Le voyage du ballon rouge. 2007) كاحياء لذكرى آلبير لاموريس و مثلت فيه كل من جوليت بينوش و فانغ سونغ .

البالون الاحمر (Le Balloon Rouge) و الماني الابيض (Crin Blanc) هما حقاً فرصة " ذهبية " لمن لم يشاهدهما من قبل و منه للتعرف على المخرج آلبير لاموريس الذي خلف ورائه أعمال تستحق فائق التقدير . عندها فعلاً قد تقول " كم نفتقدك يا آلبير، بكل صدق "
We really Miss you Albert, We really Do

ليست هناك تعليقات: