ترددت كثيراً قبل كتابة هذه الاسطر للحديث عن روبرت كريمر(1999 - 1939) المخرج السينمائي الذي ينتمي الى الرعيل الاول من المخرجيين المنتمين الى اليسار الراديكالي و ذلك نظراً لقلة معرفة الكثيرين عنه و عن مجموعة أفلامه . تساءلت ما جدوى الكتابة عن مخرج لم يُعرف الكثير عنه و حتى قلة توافر أفلامه على الاقراص المدمجة ، ولعل السينفيل يعرفون أفلامه من خلال صناديق النوادي السينمائية في مدن الغزارة الثقافية كنيويورك و باريس و لندن و برلين . لكني اقنعت نفسي بأن الثقافة السينمائية ، لمن استزاد منها ، تصبح متجمدة اذا بقيت حبيسة الدائرة الضيقة و سرعان ما تتلشى كرماد الدخان مع هبوب أول نسمة.
البدايات :
بدايات روبرت كريمير جاءت مع حركات المناهضة للحرب الفيتنامية و التي لعب اليسار دوراً كبيراً فيها ، فجاءت ثلاثية أفلامه المتتاية " في البلد " (In the country- 1966) ، " الحافة " (The Edge - 1976) و "الجليد" (The Ice - 1969) لتعكس ذالك الواقع من توالي الاحداث.
ينتمي روبرت كريمير الى تيار مخرجي الغورالا أو المخرجيين الحركيين الذي كان ، و لا يزال سائداً ، في فترة الستينيات في الولايات المتحدة . هذا التيار انتمى له مجموعة من المخرجيين المناهضين لفكرة الرضوخ لشروط الانتاج الهوليوودي و سطوة كبار المنتجين. و هم من رواد المقاهي و الحلقات الثقافية في مدن الشمال البعيدة عن سهول و هضاب كاليفورنيا . الكثير من أعمالهم يتم تصويرها بكاميرات سينمائية بسيطة عادة ما يتم استئجارها و أفلام خام تعمل وفقاً لقلة الضوء .
روبرت كريمير حمل كاميرته على كتفيه و جال متنقلاً بين أوروبا و فيتنام و أميريكا اللاتينية ليصطاد الثورات . انطلق بحثاً عن الثوار في شمال فيتنام و الحروب المدمرة ليسجلها في " حرب الشعب " ( Perople's War - 1969 ). و في 1975 أبصر " علامات فارقة " (Milestones) النور و جاء لسبر أغوار شخصيات شاركت في تقديم حلولاً راديكالية للمشاكل الاجتماعية في الولايات المتحدة خلال فترتي الستينات و السبعينات ( و هذا الفيلم شبيه الى حد كبير مع فيلمه " طريق واحد/الولايات المتحدة " و الذي سنتناوله لاحقاً ) و الدور البارز لحركة النقابات العمالية في هذا المجال . من بعدها انتقل الى البرتغال و بعيد ثورة القرنفل التي دكت محاصن الدكتاتورية ، جاءت باكورته " مشاهد من الصراع الطبقي في البرتغال " (Scenes from the Glass Struggle in Portugal ) في سنة 1979 لتعكس تلك التحولات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية في تلك البلاد . من بعدها انتقل الى أنغولا ما بعد التحرير لتوثيق الاحداث فيها .
في أحد الرسائل الموجهة الى الايكونة الموسيقي/الملحن/الشاعر بوب ديليين ، أختصر روبرت كريمر مسيرة حياته فكتب : " أنا من مدينة نيويورك . الخمسينيات كانت سيئة . احُيت من جديد في الستينات . و تركت الولايات المتحدة في أواخر السبعينيات. تنقلت كثيرآ الى أن استقريت في باريس . و أنا صانع أفلام" . الضجر الذي أصاب كريمر من محيطه جعله ينتقل الى باريس التي سرعان ما احتضنته و احتفت به كمخرج ذو اسلوب متميز.
كاميرة كريمر :
الا أن سيرة روبرت كريمر السينمائية تمتد كالخط الذي يمر عبر الزمن - عنوان لاحد أفلامه ( Le manteau) - و تحمل تسائلات ثقيلة في ثنايا المجتمعات و تراتبياتها و حتى الداكنة منها . ما يميز كريمر و سينماه هو ذالك الخيط الرفيع بين الواقع و الخيال . و هنا يكمن سر هذا التميز . أفلامه خليط ما بين الشخصي و الهم الجماعي . يطيع المادة لخلق شكل فني يخلط ما بين التجارب الشخصية المحكاة و الانفتاح على الشئن العام. أفلامه تعكس سيرته الذاتيه بشكل غير علني و هذا ما نلاحظه في الاسلوب و الشكل . يعتمد كريمر اسلوب المزج بين الوثائقي و الدراما عن طريق مزج متقاطع لأصوات و شخصيات و أحياناً بتواجد المخرج كشاهد أو مرافقاً للنقاش .
تقارير من الطريق :
في هذا الشريط ، الذي ينقسم الى جزئين يمتد لمدة 255 دقيقة ، ينتقل المخرج روبرت كريمر في "طريق واحد" المعبد بالاسفلت على طول الخط الممتد من الشمال لولاية ميين و حتى أقاصي الجنوب وصولاً الى الكي ويست في ولاية فلوريدا. يرافقه في تلك الرحلة الدكتور بول ماك ايسك ، العائد بعد عشرة سنين قضاها في أفريقيا . و تلك الشخصية الغير واقعية للدكتور بول تدخل في صلب الفيلم و تشكل مساره. ففي البدايات تجده متجولاً يقرأ من أعمال الكاتب والت وايتمن "أغنية الطريق المفتوح " . الا أن هذه الكتابات التي يستطدم بها الدكتور (الممثل) لا تتناسب مع الواقع المليئ بالتعصب الديني و العنصري و تشعبات التاريخ و تلك التي تترسخ في معاقلها هناك. و لعله يكون نقداً مهماً لحقبة الثمانينيات و تجلياتها.
فخلال تنقلات الدكتور بول يلتقي بأناس عاديين ذوي خلفيات متعددة : امرأة مسنة من أصول هندية لا تُبدي استحساناً لزواج حفيدها لامرأة من البلدة . و أخرى لمجموعة من المؤمنين يجمعون المال للحملة الانتخابية للقس بات روبرتسون . و تلك السيدة التي تعمل في عيادة للاجهاض لا تتوانى عن ابداء الخوف من رسائل التهديد بالقتل التي تصلها طوال الوقت بسبب مهنتها.
وحيث يتواجد كريمر خلف كاميرته ، يمسك الدكتور بول بمسار الفيلم متنقلاِ به بخفة من مستوى لآخر ، و يضاف الى ذلك لعدد من اللقطات الواسعة الطويلة منها و القصيرة على امتداد المساحات المفتوحة للارض و الطريق حيث يتجول الدكتور سارحاً بأفكاره و تأملاته . و هنالك الاستعمال المتفاوت للمساحة الصوتية لقرأة النصوص التي يناقضها واقع مغاير بعيداً عن الجمال . و لا شك أن الشغف و الفضول الذي يحرك الكتور بول ، العائد بعد طول غياب ، يبدو و كأنه يعيد اكتشاف الارض الامريكية على امتدداتها الواسعة من جديد. و لعل المصادفات التي تجمع ما بين الدكتور و الآخرين ، تساعد في نسج دراما توثيقية لحوارت عميقة . ففي واحدة من اللقاءات يتشاطر الشراب مع أحدهم الذي يُفصح له أنه اضطر في واحدة من المرات للجوء الى السرقة و التسول لكي يتمكن من ارسال ابنائه الى الكلية .
الا أن شريط كريمر يأخذ انعطافة حادة في النصفة الثاني و ما قبل الاخير ما أن يقرر الدكتور بول " أن الوقت قد حان لفعل شيئاً مفيداً في هذا القرف " و يدير ظهره للكاميرة و يغادر ، مما يترك الجزء المتبقي من الشريط ( في حدود 45 دقيقة ) لتجارب كريمر بحيث يصبح الفيلم تجريبياً ، متنقلاً ما بين تجارب متعددة و أماكن مختلفة و من تداخل لمستويات متعددة من الاصوات و لقطات تسير و كأنها جورنال فوتوغرافي ليوميات الحياة العادية في أميركا ، مليئة بالتفاصيل و فائقة في التنوع.
و هنا من المفيد التذكير أن امتداد فيلم "طريق واحد /الولايات المتحدة الامريكية " (تم تصويره بأكثر من 65 ساعة ) فيه من السلاسة و الخفة لاجزاء متباعدة تشكل فسيفساء لمجتمعات و شخصيات و أماكن متنوعة، يقف خلف تجميع و تقطيع هذا العمل ، مخرج العمل روبرت كريمر الذي انجز تصوير و كتابة و اخراج العمل، و فريق المونتاج من امثال غاي ليكورن ، بير شوكرون ، كلير لافيل و كيجا كريمر . و موسيقة بير فيليب.