٢٠٠٩/١١/٢٦

٣ محاولات جادة لتسويق فيلم قصير


اذاً الكثير من الافلام القصيرة اليوم ، سواءاً كانت روائية أو وثائقية أو حتى تجريبية ، ما أن يتم عرضها في المهرجانات السينمائية حتى تذهب من بعدها الى الرفوف و تصبح مغناطيساً للغبار، أما بعضها قد يحالفه الحظ و يتم جمعه مع أفلام أخرى ضمن باقة متنوعة على أقراص مدمجة تباع في الاسواق. شاشات التلفزة لا تجدها مادة تسويقية و يمر أنف المشتري عنها من دون أن تجذبه رائحتها. و أنا هنا لا أتكلم عن السوق العربية ، الميتة أصلاً .

يحدث في هذا العالم أن الموزعين غير موجودين و ان تواجدوا فهم قلة يمكن عدهم على أصابع اليد الواحدة و هم متواجدون بحثاً عن أفلام طويلة روائية و نادراً جداً ما يجدوا الوثائقي الحقيقي ذو قيمة. ويمكن اختصار الاسباب تلك بما يلي :
- الثقافة غير متداولة بين العامة و هي محدودة بين النخب و المهتمين بذلك النوع من السينما.
- الافلام الوثائقية حقيقية و هي مزعجة للانظمة العربية الفائقة الديموقراطية !
- الربح السريع و ثقافة السوق تتحكم بجيبة الاداريين .
- الغيرة ، النكد و عدم تقبل الآخر مسيطرة بشكل لاإرادي على العقول ، و هي خطيرة .

لكن ما هي البدائل (حتى لا نقع في تكرار المعوقات التي " هي كالهم على القلب ") ؟ أحد البدائل يكمن هنا في الشبكة العنكبوتية . هناك عدد لا بأس به من البلاتفورمز أو المواقع التى تعرض أفلام متنوعة و قصيرة الطول مقابل اشتراكات مالية ( لا أتحدث هنا عن اليو تيوب أو أي من مواقع الفيديو المجانية ) . يأتيها الزائر من أنحاء العالم ليشاهد أفلام تتماشى مع رغباته و هناك باحثيين و أكاديميين قد يعنيهم فيلمك و عليه فهنالك اشتراك مالي اما شهري ، اسبوعي ، أو مقابل كل فيلم . يتم اقتسام ارباح المبيعات الى النصف ، أصحاب الموقع يحتسبوا نصفاً من الربح و للمخرج (أو صاحب حقوق العرض بما فيها موزع الفيلم ان وُجد) النصف الآخر. في نهاية الربع الاول ، أول نهاية السنة ، قد يحتسب مبلغ لا بأس به و قد يأتي أقل من المتوقع. المحاولة أفضل من لا شيء و خصوصاً أن الفيلم يتم عرضه بنسخة جيدة من دون تحميل ، وهذا بالطبع يرّجع الى جودة النسخة المرسلة الى أصحاب الموقع. و هناك تعاليم يجب اتباعها قبل ارسال نسخة الفيلم ... كتخليص حقوق العرض و الموسيقى المستعملة في الفيلم ، ان وجدت ، و أمور أخرى يجب الانتباه اليها... و عندما يصبح الفيلم جاهزاً للعرض ما هي الا كبسة " بلاي" تفصل بينك و بين المشاهدين من أصقاع العالم ، و هذا بالطبع يعتمد على قوة فيلمك في نهاية المطاف.


هناك بديل آخر ، ان تعذر امر ايجاد موزع لفيلمك، فعليك القيام بمجهود اضافي بنفسك ... و هي أن ترسل الفيلم للمشاركة بسوق المهرجانات السينمائية التي تستقطب عدد كبير من المهتمين و الموزعين الذين قد يجدوا فيلمك مناسب لارفاقه ضمن اهتماتهم من تلك السوق . العديد من المهرجانات الدولية و لدي ارسال طلب مشاركة الفيلم تخصص حيزاً لسؤال منتج الفيلم ان كان يود مشاركة الفيلم ، في حال قبوله أو عدم قبوله، في سوق المهرجان . تلك المهرجانات تشترط مبالغ مالية مقابل مشاركته و بعضها الآخر لاتطلب أي مبلغ ما دام الفيلم قد تم ارساله . و هذا بالطبع جيد ، لأن الفيلم يتم اعداده في كتالوغ السوق و يبقى متوفراً لمن يرغب بمشاهدته . و يتم الاحتفاظ بنسخة من الفيلم في أرشيف المهرجان من سنة الى أخرى . فالمهرجان يؤدي بذلك خدمة مهمة للمخرجيين بعرض أفلامهم و تسويقها و الاهتمام بحضورها الاعلامي . و المواد المرفقة كالبوستر و الكروت الموزعة عن الفيلم تساعد كثيراً في لفت الانتباه للفيلم .

أما ان فاتك كل ذالك و قد توافر مبلغ لا بأس به في حسابك المصرفي ، قبل أن تقرر الذهاب للبحث عن تلك الوظيفة اللعينة التي تغطي مغامراتك ، عليك ايجاد من يوضب لك فيلمك في معلب ديفي دي لائق مع تصميم جيد و نسخ معقولة ، وقم بدور الموزع لفيلمك على محلات بيع الافلام و المواد الثقافية . و هذا بدوره كافي ، على الاقل ، لاسترداد بعض المبالغ المصروفة من هنا و هناك ... و طبعاً كله يتوقف على كمية النسخ المباعة !

اخيراً ، لا تيأس و تذكر أن اليأس هو عدوك اللدود ، و عليك أن تتغلب عليه بالاصرار على تكفية مشوارك الى النهاية. الطريق ليست معبدة بالورود و القبل و قد يكون النفق مظلماً و ما لا نهاية . نعم ، الحياة معقدة و مليئة بالخيبات و في نفس الوقت قد تكن جميلة ( لا دولشي فيتا) و كذلك قد يأتي فيلمك الاول بالفشل و يكرهه الجميع ، أو العكس صحيح . و لكن قد تتغير رُأيّتك و يأتي فيلمك الثاني أجمل و الثالث كذلك .

٢٠٠٩/١١/٢٤

الواقع المغاير - دخول الانيميشن في صناعة الوثائقي

هل بالامكان صناعة فيلم وثائقي أنيميشن ؟ و هل لهذه التقنية التأثير الاقوى من صناعة فيلم وثائقي بالطريق الكلاسيكية المعروفة ؟ لعل هذين السؤالين يمكن الاجابة عنهما في سياق البحث التالي و عن دور بعض الافلام التي ظهرت في فترات زمنية مختلفة.

ًWaltz with Bashir

هذا الطرح لم يعد جديداً على الاطلاق ، وخصوصاً عندما نعلم أن في السنة الماضية ترشح فيلم المخرج آري فولمن ( Ari Folman) "الرقص مع بشير" (Waltz with Bashir) لنيل جائزة الاوسكار ، و قد نال من بعدها شهرة عالمية و بقي محل جدال واسع . و هذا الفيلم يأخذ مادة واقعية (بغض النظر عن القراءة الاسرائيلية لهذا التاريخ الدموي للدولة المغتصبة و وحشيتها في الحروب التي شنتها) في محاولة لاسترجاع ذاكرة جنود خدموا الاجتياح الاسرائيلي للبنان في 1982، و محاولة المخرج ، الذي يمثل نفسه كشخصية رئيسية يعاني من فقدان ذاكرة تلك الفترة الزمنية الحالكة الظلام و محاولاً استرجاع ما فاته عبر الالتقاء بأصدقائّه الذين يروون له تفاصيل ما جرى معهم في بيروت وصولاً الى مجزرة صبرة وشاتيلا .

من هنا ، و كوننا اعتدنا على مشاهدة أفلام الانيميشن المتخيلة لعالم من صناعة كتاب سيناريو و فنانيين و صناع الغرافييك في خلق شخصيات اعتدنا حضورها، وعليه فإننا كمتلقين لدينا الشغف ذاته لاستقبال الصور المتحركة بدون أية عوائق ، و لنتلقى تفاصيل جديدة تغني مخيلتنا. وحقيقة الامر أن الصورة المتحركة المرسومة ببراعة لديها الاثر الكبير في جذبنا للمادة التي وان تم معالجتها باسلوب الوثائقي قد لا يكون لها الصدى ذاته من التأثير.

ولتعريف أكثر دقة للفيلم الوثائقي الانيميشن فهو أي فيلم تحريك يتناول مادة غير متخيلة . و لتحقيق ذلك يتم الاستعانة بمواد مسجلة لمقابلات و أصوات متنوعة ، و يمكن أيضاً أن تكون كإعادة لخلق الحدث الحقيقي بصورة جديدة. و هذا يتيح المجال لاشكال و اساليب متنوعة . بعض الافلام قد يستعين بالتسجيل الصوتي لمقابلة ما و يعيد صياغة الفيلم كيفما شاء لاعطائه بُعداً آخر. ويمكن أن تكون تلك الافلام المتحركة تتناول شخصية ما أريد من خلالها سرد تجربته بصورة مشوقة. أما الباقي فهي اعادة تركيب لحدث ما، تاريخي أو شخصي ، عن طريق رسم متقن لهذه المادة.


بمراجعة بعض المصادر المتوفرة على شبكة الانترنت، يمكننا معرفة أوائل تلك الافلام التي ظهرت في البدايات الاولى للسينما و هو فيلم " غرق لوسيتانيا" (The Sinking of the Lusitania) لسنة 1915 للمخرج وينسر مكاي (Winsor McCay). هذا الفيلم (و الذي تسنى لي فرصة مشاهدته على اليو تيوب ) يعيد رسم حادثة غرق سفينة الركاب البريطانية التي تعرضت للغرق على أيدي غواصة المانية وتسببت بغرق 2,000 راكب كانوا على متنها، مما دفع بالولايات المتحدة لدخول الحرب العالمية الاولى. و أتى هذا الفيلم متسلحاً بالرسوم المتحركة لوصف عملية الاعتداء على القارب. فعمد المخرج مكاي للاستعانة بالمادة الموثقة لرسم حالة الهلع و الرعب التي عاشها الضحايا أثناء غرق السفينة . وهنا كان التأثير على الجمهور فعال مما لو اكتفى المخرج بعرض بعض المقابلات و المواد الارشيفية المصورة لتلك الحادثة. في الاصل لم تتتوافر أي مادة صورية للحادثة ، فتم الاستعانة بالانيميشن ليصور الحدث و ليقرب أكثر الى بعض القصص المتفرعة عن غرق السفينة بصورة دراماتيكية. و جاءت ردة فعل الجمهور مأثرة نظراً لقوة المشاهد التي كانت حاضرة أمامهم.

مخرج الانيميشن بول فيستر (Paul Vester) لديه تجربة مميزة في هذا الحقل، فقد عمل على أخذ عدة مقابلات لاشخاص يعتقدون أنهم قد تعرضوا للاختطاف على أيدي مخلوقات فضائية و وثقها بفيلمه الانيميشن "المختطفون" (Abductees - 1995). هذا و قد ساهم عدد من الفنانين في تركيب المشاهد ، مما خلق تنوعاً واضحاً في الاسلوب و التقنية. فكان لكل شهادة اسلوبها الفني المميز عن مثيلتها و جاءت التجربة مأثرة وقوية. فكان لكل تجربة شعورها و لونها المميز معطياً زوايا و أبعاد لصوتيات كل شاهد و تجربته مع الخطف. و بهذا اتاح للمتلقي حرية تفسير تلك التجارب و تحليلها ان كانت صادقة أم لا . في حين أن للانيميشن الفضل في تقريب التجارب المختلفة لأولئك الاشخاص و جعلها ممكنة و اعطائها بعدها الشخصي جاعلاً من تلك التجارب سليلة الذاكرة و ميزة تخص الفرد .

تجربة المخرج ريتشارد لينكلاتر (Richard Linklater) مع الانيميشن الاول له في "ايقاظ الحياة " ( Waking Life - 2001) ، جاءت مغايرة للسائد حيث اعتمد على تقنية الروتوسكوبينغ (Rotoscoping) - وهي تقنية يتم خلالها تصوير جميع اللقطات على كاميرة ديجيتال و من ثم يتم الاستعانة بفريق من رسامي الغرافيكس و الانيميشن لاعادة رسم و تلوين اللقطات كلاً على حدا.
و النتيجة فيلم متخيل لشاب يعيش بين اليقظة و الاحلام و يجول لاستطلاع أراء من يلتقيهم حول أمور تتعلق بالواقع و الاحلام ، الارادة و معنى الحياة. الاصوات المشاركة بالفيلم هي لممثلين معروفين كالممثل ايثن هوك (Ethan Hawke) و جولي دبلي (Julie Deply). و بما أن عدد فناني الغرافيكس المشاركين بالفيلم كان كبيراً فكذلك جاءت مشاهد الفيلم لتظهر التنوع في الاسلوب و الجماليات، مما ساهم في خدمة السيناريو الذي يدور ما بي الواقع و السريالية و ارهاصات الفلسفة و تسائلاتها: هل ما نعيشه هو مجرد حلم أم واقع ؟

بول و ساندرا فيرلينغر (Paul and Sandra Fierlinger) كان لديهما اللمسات الخاصة في مجال الوثائقي المتحرك. ففي فيلمهما "مقتبس من الذاكرة " (Drawn from Memory ) في عام 1991 ، يروي بول فيرلينغر سيرته الذاتية عندما كان ابناً لدبلوماسي تشيكي خلال الحرب العالمية الثانية. استعمل خلالها تقنية فنية متحررة و جميلة في رسم معالم ذاكرته بشكل شخصي. و كذلك انسحبت أعمال الثنائي في الوثائقي الانيميشن لتتناول مواضيع عدة كالادمان على الكحول، الكلاب ، وحياة لاشخاص عاديين .

في اوروبا الشرقية، التي كانت خاضعة آنذاك للحكم الشيوعي ، درجت العادة بين مخرجي أفلام الانيميشن على صناعة أفلام تجافي الواقع و خاضعة للكثير من التفسيرات. وهذا بالطبع يعود الى ميولهم الى نقد تلك الانظمة و في نفس الوقت التفلت من قيود الرقابة. و بالنتيجة جاءت تلك الافلام غاية في الابداع و ذات حبكة روائية مبتكرة. و هناك بعض الامثلة عن معالجات استعارية لتوصيل رسائل سياسية من خلال بعض الاعمال التي قام بها المخرج التشيكي جيري ترنكا (Jiri Trnka) ، الذي اشتهر كصانع للدمى ، فنان غرافيكي ، صانع أفلام متحركة و مخرج ، و كذلك أشتغاله على تقنية الحركات المتوقفة للدمى (stop motion puppet animation). و قد اشتهر بفيلمه "اليد " ( - 1965-The Hand) . في هذا الشريط يقدم حالة المقاومة للنظام الشمولي في شخصية دمية تلتقي بيد انسان. تقوم اليد تلك بالطلب من الدمية في عمل تمثال يجسد حالها. ترفض الدمية ذاك الطلب. في بداية الامر تحاول اليد اقناع الدمية بالامر، و عندما تجد تعنت الدمية ، تعمد الى استعمال القوة مما يؤدى الى موت الدمية و بالتالي ترتيب مراسم الدفن للضحية.
بعد وفاة الفنان و المخرج جيري ترنكا سنة 969 1، لم يبصر فيلمه هذا النور الا بعد انقضاء عشرين عاماً.



في فيلميهما " مع و ضد" (Pro and Con ) لعام 1992 ، جوان بريستلي و جون غراتز (Joanne Priestly mand Joan Gratz) تعاونا لسرد قصة قصيرة عن علاقة تربط بين حارس و سجين . تم خلالها استعمال انيميشن عبر تغطية مادة الطين على الزجاج و تحريكه لخلق دمى ذات ابعاد ثنائية ، مرسومة و ملونة وفقاً لحركتها المتتالية و كل ذلك لسرد تجربة الحارس داخل اسوار السجن. التنوع في استخدام التقنيات جعل من كلتا التجربتين ، للحارس و السجين ، مختلفتين من حيث المعالجة و الاسلوب.

مثال آخر للمخرجة جين ساكس (Jen Sachs) في " النمرة المخملية " (The Velvet Tigress ) ، حيث يعتمد باسلوب شكلي على اعادة صياغة لمحاكة جنائية حدثت في سنة 1930. و كذلك تطرقت الى الكيفية التي تعاطى بها الاعلام مع تلك المحاكمة.
عمدت المخرجة الى استعمال صور من ملصقات الجرائد و مزجها مع الغرافيكس لوضع تخيل للصورة العامة التي كانت تحيط بتلك المحاكمة. وأتى الفيلم ليقدم مادة ذات طابع مليئ بالمعلومات ، و مغناطيس يجذب اليه المشاهدين نظراً لتقنية الصوت و الصورة.

The Kid Stays in the Picture

هذا و قد تم الاعتماد على الانيماشين في عدد من الافلام الوثائقية المعروفة. فكل من المخرج ايروول موريس (Errol Morris ) و روبرت ايفنس (Robert Evans) ادخلوا المؤثرات البصرية لخلق مساحات متحركة و ذات شعور سريالي. يعتمد المخرج ايروول موريس على المقابلات و يدخل معها لقطات حية مليئة بالحركة و معتمدة بالاساس على تتابع زمني لصور فوتوغرافية و تحريك غرافيكي و هذا ما نجده في فيلميه "ضباب الحرب " (Fog of War) و "سريع، رخيص و خارج السيطرة" (Fast, Cheap and Out of Control). أما روبرت ايفنس في " الفتى يبقى في الصورة " (The Kid Stays in the Picture ) يعمد الى تركيب الصور الفوتوغرافية في خلفيات متنوعة. و تلك الافلام قادرة على جذب المشاهد نظراً لاحتوائها على عناصر قوة في الشكل و الاحساس تعمل على اغناء و دعم المقابلات المسجلة. و عليه فإن هذه المواد المستحدثة تكسر الجمود الذي قد تحدثه المقابلات الطويلة و تصبح ركناً داعماً و محركاً لمسار الفيلم.

Ryan

لكن اليست فكرة الوثائقي الانيميشن تشكل بحد ذاتها تناقضاً ؟ كيف لمادة مصنعة أو مزيفة للواقع قد تنتمي الى سرد أو قصة موغلة في الواقع ؟ كريس لاندرث في ريان (Ryan) ، الذي اسهم بشكل كبير في ابراز مفهوم الوثائقي الانيميشن الى العيان ، لديه جزء من الاجابة : هي تتكلم الحقيقة (بعضها شخصي ) عن موضوعها و عن مُخّرجها من خلال عمل متحرك غير حقيقي للحدث و الشخصيات.

من ناحية أخرى عزز بعض المخرجين - الفنانيين تلك النظرية الشكلية ، فكان والس و غروميت سباقين في تسخير سلسلة ناجحة لافلام قصيرة تحت عنواني "مقاطع محادثة" (Conversation Pieces) و " كلام مجدول " ( Lip Synch) . و النسخة الحديثة تختصر هذه التقنية : استعمال تسجيلات لاصوات أناس حقيقين و أماكن فعلية كمأسس لتلك الافلام . تم من بعده اعتماد تقنية الحركات الجزئية ( Stop Motion) للدلالة على احاسيس الاشخاص و الاماكن المسجلة ، و ان أمكن تصوير الظهور الفعلي في سياق الحدث.

التجريب في هذا المجال رافق المخرج بيل بيري (Bill Perry) في " راحة الحيوانات " (Creature Comforts) حيث اعتمد على الناحية الصوتية لتسجيلات مأخوذة داخل حديقة الحيوانات حيث يتدحادثون فيما بينهم عن حياتهم خلف القضبان. و هذا العمل التجريبي يأخذ حيزاً رمادياً ما بين الوثائقي و الانيميشن.

Grave of the Fireflies

أما " قبر اليراعات" ( 1987 , Grave of the fireflies) للمخرج الياباني ايساو تكاهاتا (Isao Takahata) فيحمل الكثير من التأويل ، فهذا الشريط الانيميشن ( انتاج شركة توهو اليابانية الرائدة في انتاج و توزيع الافلام) يشكل فاصلاً ضبابياً ما بين الروائي و الوثائقي. يدور حول القصة الشبه ذاتية للكاتب - المغني - القاص أكيوكي نوساكا (Akiyuki Nosaka) الذي نجي و أخته الصغيرة من القصف الذي تعرضت له مدينة كوبي اليابانية أبان الحرب العالمية. الثنائي يجدا نفسيهما في أحد القرى النائية عرضة للحرمان و الجوع الشديد مما يؤدي الى موتهما سوياً نظراً لسوء التغذية. يعود بنا الفيلم الى تلك التجربة عبر شبحي القصة و الذي يروي أكيوكي تفاصيليها.
الفيلم مليئ بالمشاعر ، و اللحظات المفاجئة بقسوتها ، في حين يشكل علامة فارقة في تحقيقه : القصة لم تأتي على تجسيد واقعي للاحداث (في حين أن أخت نوساكا قد ماتت فعلياً ، في حين نجى هو ) ، لكنها غرفت من واقع تلك التجربة للاخ و أخته و قدمتها بشكل مختلف.

من جهة أخرى، و من نظرة محايدة في صناعة الوثائقي الانيميشن ، استطاع الفنان دينيس توبيكوف أن يحدد معالم ذالك الحياد حيث برهن في فيلمه "صوت أمه " (His Mother's Voice - 1997) على نقل قصة فقدان والدة لابنها عن طريق أعطائها أبعاداً اضافية . كيف فعل ذلك ؟ تروي أحد السيدات كيف أن ابنها اصيب بطلاقات نارية و نقل على أثرها الى المستشفى وعجز الاطباء حينها عن انقاذ حياته . عمد دينيس توبيكوف على استعمال التسجيل الصوتي للسيدة مرتين، في كل مرة اعتمد على اسلوب مغاير في الانيميشن و في وجهة النظر. و نظراً لذلك ، فإن المشاهد يرى القصة ذاتها تتكرر بشكل مختلف . النتيجة ببساطة هو ان القصص المروية حمالة أوجه عدة . و هذا بحد ذاته جرئة في تحدي المشاهد و وضعه أمام احتمالات و تفسيرات متنوعة.

لعله من المفيد النظر الى الاشكال المتنوعة للافلام اليوم ، سواءاً أتت من روسيا ، جمهورية التشيك ، النروج ، كندا أو الولايات المتحدة و حتى المكسيك ، فهي تطرح أسئلة كثيرة و تقدم أشكالاً و أنماط جديدة دخلت منذ مدة طويلة في أسلوب التعبير بشكل جمالي و فني راقي لتقديم المادة بشكل جديد و مستحدث بعيداً عن التكرار . هي متحررة من كل القيود و متحركة بحثاً عن الواقع في اطار متخيل . و بالتالي أليس من حق المخرج الذي لمعت لديه فكرة ذات يوم أن يتلاعب بالمادة الوثائقية و يقدمها باسلوب حديث و مبتكر من دون أن يشذ بعيداً عن الحقيقة ؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملاحظة : يمكن مشاهدة معظم تلك الافلام المذكورة على Youtube .

* تم الاستعانة بالمراجع التالية لكتابة هذا المقال :
- Frames Per Second Magazine : " The Truth in Pictures " , by Shiela Sofian
-Cineaste Magazine - Vol XXXIV, No2

+ + اذا كان لدي أحد من القراء اضافات أو معلومات عن مواضيع تخص هذا المقال - أو حتى أفلام لم أتي على ذكرها - يمكن اضافتها و التعليق عليها.

٢٠٠٩/١١/١٥

خلال رحلتى الى المانيا ، أخذت وقتي بزيارة مدينة برلين، التي تعد زائريها بالمزيد في كل زيارة جديدة ، و اعتمدت على العديد من الخرائط التي تقدمها العديد من الفنادق المليئة بالسياح الآتين من كل الانحاء، لاكتشاف تلك المدينة . أخذت على عاتقي التعرف على المدينة التي يبقى التاريخ موجود في كل زاوية و شارع و حي .
وفي كل الاحوال استوقفني متحف السينما المتواجد في بوستدام بلاتس ، و الذي يمكن الوصول اليه باستعمال الباص أو المترو . هناك يمكن التعرف على البدايات الاولى للسينما الالمانية منذ بداية التقاط الضوء على شريط السليلويد و تصوير العامة في الساحات و صولاً الى خروج نوسفوراتو (الذي اريد له أن يتجسد بمرض الطاعون الذي كان متفشي انذاك) من قبوه وانتقاله الى المدينة التي ان عشقها لم يبقى الكثير من سكانها الا و سقط ضيحة لشروره . بداية السينما التعبيرية متواجدة للعرض على شاشات و مجسمات للعرض ، و لدكتور كالغيري (The Cabinet of Dr. Caligari) نصيبه الاوفر من العرض على شاشات مربعة و مجسم لستديو التصوير و كتابات مع مادة صوتية. ننتقل من مكان الى آخر و الى حقبة جديدة : أفلام و صوتيات لافلام فريتس لانغ و تحفته " متروبوليس" التي سبقت عصره بأشواط . الى العصر الذهبي في السينما و انتقال العديد من المخرجيين و الممثلين و الرحفيين الالمان لتبادل الخبرات مع هولييوود التي كان مجهرها في بحث مستمر عن تلك المواهب في الجزء الآخر من المحيط. الى أن جاء الحكم النازي و أتت معه الافلام الدعائية لذلك الحكم . الافت في هذا القسم، و جود عدد لا بأس به من الممثلين و الممثلات الذين ممن لم ينفذ بجلده تعرض للملاحقة و من ثم القتل .
أما الحرب الباردة فقد كانت رحاها تدور في أرجاء برلين ، المد الشيوعي في مواجهة القوى الغربية و هذا ما وجد كمادة دسمة للسينما . الظريف في هذا القسم من المتحف، وجود جوارير تحتوي على كتيبات و صور و مواد فنية ما أن تفتح احداها حتى يخرج عليك تسجيل من ذاك الفيلم أو المذكرة .
المخرج فاسبيندر ، أحد أهم المخرجيين الطليعين في السينما الالمانية ، يحضى بقسم وفير من العرض الى جانب عدد من المخرجيين المهمين: فيرنر هيردزوغ ، توم تيكور، هيلكي ميسلويتز، دوريس دورير ، فاتح أكن، أوسكار روهلر، و غيرهم العديد.



لعل الكثير منا يجهل تلك الاعمال المهمة و الخالدة للمخرج الياباني مساكي كوبياشي (Masaki Kobayashi) الذي جاء بواحد من أهم الاعمال في تاريخ السينما اليابانية ، " الحالة الانسانية " (Human Condition) و هو فيلم يمتد طوله الى نحو تسعة ساعات و نيف تم عرضه في أجزائه الثلاثة في اليابان بين 1959 - 1961 و الذي من خلاله يعاين المخرج الحياة المليئة بالمشقات لشلب يدعى كاجي (تاتسيو ناكيدا) ـ و تلك التي كانت تعيشها اليابان من تحولات اجتماعية و سياسية - الذي يجد مبادئه تتساقط أمام عينه خلال الحرب العالمية الثانية حيث الحروب الطاحنة تدور رحاها و يُجبر على المحاربة الى جانب القوة الامبريالية لليابان الى أن يقع في الاسر لدى القوات الروسية.

المخرج كوبياشي يبرع بنقل حدة المعارك و القهر و انسحاق الانسان أمام وحشية الحروب بجمالية متناهية و فنية تتفتح أمامنا بمشاهد تنقل المساحات الواسعة المأخوذة بحرفية متناهية ، قسوة التعابير المرتسمة على الوجوه المتسخة للشخصيات ، العنف المتفجر ، عذابات الروح أمام هول المشاهد و على النقيض منها التتوق الى الجمال و السلام الذي يبدو بعيداً حيث تعصف الرياح الناعمة فوق الهضبات ، و حيث يبقى الحبيب منتظراً. هي تلك الانكسارات التي عاشها هذا المحيط من العالم بكل مغامراته و عصبيته الاثنية و المجاهرة بالقوة التى أودت به الى التهلكة و الكارثة الانسانية، و هذا يدخل في صلب الاحداث التي يعيشها كل من شخصيات الفيلم.

(يتوافر الفيلم على أقراص سخية من criterion - و أكيد الفيلم يعني أولئك المهتمين بالسينما الاسيوية الغنية بأرشيف مهم )