٢٠٠٩/٠٣/٣٠

ما الذي حدث للتو ؟


في أحد الايام خرج روبرت آلتمان بفيلم " الاعب " (١٩٩٢. The Player) ليروي بشكل هزلي تفاصيل حياة أحد المنتجين المهمين في هوليوود ، غريفين ميل (تيم روبنز) ، الذي يُقّدم على ارتكاب جريمة ضد كاتب سيناريو لاعتقاده انه خلف رسائل تهدده بالقتل . الاهم من تلك الحبكة الميلودرامية ، هو دخول الفيلم في كواليس الاعمال داخل استيديوهات هوليوود ، وكيف تقيم الافلام من ناحية الربح و الخسارة و كيف يناضل المخرج في سبيل انقاذ رؤيته من مقص المموليين ، و يتمرد الممثل على المؤسسة ، و كاتب السيناريو الذي يعاني الامرين ... تلك التفاصيل تتكرر مجدداً في جديد المخرج باري ليفنسون " ما الذي حدث لتو ؟ " (what just Happened . ٢٠٠٨) ، المأخوذ عن كتاب أرت لينسون " ما الذي حدث لتو ؟ حكايات مريرة من الوجهة الامامية لهوليوود " ( what just happened ? Bitter Hollywood tales from the front line) ، يروي فيها تجربته كمنتج سينمائي.

الممثل روبرت دينيرو يلعب دور المنتج ، بين ، يشاهد أول عرض لفيلمه " بغضب" (Fiercely) ضمن عرض تجريبي وسط تقيم الجمهور،
و خلال المشهد الاخير للفيلم تتجه رصاصة قاتلة يطلقها الاشرار صوب رأس كلب الممثل شون بين ويتطاير الدم ليغطي الشاشة و هذه اللقطة تثير اشمئزاز و نفور المشاهدين مما يأسس لبداية متاعب المنتج بيّن ، يسعى من بعدها للاتصال بالمخرج جيريمي برونيل (مايكل وينكوت) ، ذو اللكنة البريطانية الحادة، ليبدأ التحظير للدفاع عن رؤيته أمام مديرة الاستوديو لو تارنو (كاثرين كينير ) و التي تهدد بسحب الفيلم قبل عرضه في مهرجان كان ما لم يتم حذف مشهد موت الكلب.

من هنا تتشابك عدة فصول داخل القصة : تزايد شكوك بيّن من زوجته السابقة عن علاقتها بأحد أصدقائه ، تمرد الممثل بروس ويليس ، الذي يلعب نفسه ، على الجميع لانه بكل بساطة يريد الاحتفاظ بلحيته في حين أن المطلوب منه أن يظهر كبروس ويليس الذي تعود عليه المشاهدين دائماً ، حليق الوجه و الرأس و متحذلق غير جدي.

باري ليفينسون يعالج الفيلم بشكل كوميدي ، وهذا ما يطبع أفلامه عادةً ، فعندما تلجىء الادارة الامريكية للتغطية على فضيحة الرئيس تخترع حرباً في دولة متخيلة لالهاء الرأي العام كما جاء في فيلمه " حرك ذيل الكلب " (Wag the Dog. ١٩٩٧) ، وكذلك الامر مع الجندي الامريكي ، يلعب دوره الممثل روبرن ويليمس، الذي يأخذ من الراديو وسيلة تواصل مع الجنود في فيتنام بدلاً من العراك في " صباح الخير فيتنام " (Good Morning Vietnma . ١٩٨٧) . كلها وسائل اعلامية للتواصل سواءاً كان في التلفاز الذي يمكن فبركة قضايا ما و بثها للجمهور لتحوير وجهة نظره ، أو الراديو أو حتى السينما و عالمها المليىء بشغف ، نجاحات و انكسارات ، صعود و من ثم تلاشي.

لكن " ما الذي حدث لتو ؟ " يبقى في العموميات و لا يمتلك الجرأة الكافية للغوص في التفاصيل ، لسبر معالم الفساد و الجشع في هوليوود. رحلة المنتج المحنك من بيته و انصرافه الى الاعمال اليومية في عالم صناعة الصورة لا تستثمر في مشاهد اكثر أهمية لمعالجة الاحباط الذي قد ينتهي عنده اليوم ، لعل سكورسيزي دخل في التفاصيل أكثر في حياة ذاك الشاب الطموح الذي حول شغفه بالطائرات الى صناعة سينمائية، صرف جهداً وفيراً في سبيله لكنه دخل الى روحه الخاوية كمن يدخل الى قاعة سينما على وقع فيلم يتمزق أمامه و يتلاشى ، هذا في " الطيار" (Aviator . ٢٠٠٤).

لعل مشهد انتقام المخرج جيريمي برونيل من الجميع عندما يعرض النهاية كما هيا في مهرجان كان بعدما وعد بحذف مشهد موت الكلب ، يستحق الاطراء لانه يعرض بشكل واقعي الى جانب من الضغوط التي تصطدم فيها رؤية المخرج مع تطلعات الممول في صناعة الفيلم و قد تتلاقى أحياناً كثيرة . فواحد يعي أهمية رؤيته للفيلم من الناحية الفنية و الحبكة الروائية بكل تفاصيلها و أخر يراى الفيلم كفرصة للربح و الاستثمار ، و هذه في طبيعة الحال صناعة تجتمع فيها جميع العناصر لتكوين نواة و احدة و هي الصناعة السينمائية ، ليس الفن وحده قادراً على النهوض خارج التمويل الذي هو في النهاية تسويق للمنتج و ايصاله لاكبر قدر ممكن من المشاهدين الذين بدورهم يساهموا في اكمال هذه الصناعة، لكن في حدود أن المشاهدين قد ينفروا من هكذا مشهد و بالتالي تضيع حظوظ الفيلم بالنجاح.




٢٠٠٩/٠٣/٢٢

سينما الطريق : طرق وعرة كحكياتها




عندما انكب جاك كيرواك على كتابة روايته المقتبسة عن سيرة حياته تحت عنوان "على الطريق" (On the Road) مهد لبروز جيل صاعد عرف ب "جيل بيت" ، وهو جيل الخمسينيات الاهث خلف مفهوم جديد للحياة مخالفاً للتقاليد والاعراف المتبعة آنذاك في اسلوب الحياة الامريكية . تُرجم هذا التعبير عن طريق الهروب من الواقع بتعاطي اصناف متنوعة من المخدرات و ممارسة الجنس بلا حدود و اكتشاف ديانات جديدة آتية من الشرق و بالتحديد البوذية ، التي تركت اثرها العميق في حياة الكاتب جاك كيرواك. كتابه هذا أتى كالاشعاع المنير الذي آلهم ألاف الشباب و بات يعرف بملك ال"بيِت" ، كلقب لا يحبذه كيرواك كثيراً. أحد الرواة ذكر يوماً انه جاء لزيارة كيرواك بشقته ، حيث كان يسكن مع خالته ، و تفاجاء بمدى انشغال اصابعه بالكتابة من دون توقف على الآلة الكاتبة. اسلوبه في الكتابة جاءت غريبة بعض الشيء ، فقد جمع عدد كبير من الاوراق و اللصق أطرافها و ما أن بدأ الكتابة حتى تسارعت انامله تلاحق بنات أفكاره من دون انقطاع. في نهاية الامر بدت تلك المخطوطات ، التي عُرضت لاحقاً بأحد المتاحف ، كالطريق الذي سافر عليه يوماً من نيويورك الى سان فرانسيسكو حاملاً روحه بين كفيه و أوراق معدودة من النقود في جيبه. بعد عودته من ترحاله وجد كيرواك أن جيلاً بأسره كان يسعى للسير على خطاه.

أثناء حقبة الثلاثينيات في أميركا و الكساد الاقتصادي الكبير ، تدافع الالاف من الاشخاص و العائلات من الولايات الشرقية التي لم تقدم ما يكفي من المساحة و فرص العمل ، الى ركوب القاطرات و التوجه الى الغرب حيث الفرص الجديدة في العمل و تنوع المساحات الشاسعة و الحياة الواعدة مع اكتشاف مناجم الذهب. فأصبح الغرب كالاسطورة التي تقتبس منها الروايات و القصص عن حياة أشخاص تبدلت حظوظهم الى الافضل و أصبحوا ميسورين ، أما للبعض الاخر فلم تكن ذات نهايات سعيدة ، بينما تلاشى أخرين كالاشباح مع تفشي الاوبئة و اشتداد قسوة المناخ . لكن كل ذلك لم يأثر في مخيلة الكثيرين عن أن الغرب الامريكي قد بات الوسيلة الوحيدة للهروب و البحث عن حياة جديدة.

وهذا ما انعكس فعله في "سينما الطريق" : الطريق غرباً يتسع للكثير من الحالمين و الباحثين عن معنى جديد للحياة ، عن حياة لا تشبه ماضيهم ، فيها السعادة تتحدى الاحباط و التعاسة ، المغامرات تقارع العادي و الممل ، و الحرية تهزم العبودية على جميع أشكالها. أفلام على الطريق أتت لتقول كل ذلك ، فبعضها صُنف ضمن هذا الاسلوب وباتت تُعرف بأفلام الطريق و أخرى لم تدخل ضمن هذا الاسلوب لكن الطريق أتي ضمن السياق العام للقصة. و المقصود بالثاني أن بعض افلام الطريق تغرف من التصنيفات الاخرى من تلك الموجودة في الافلام السوداء ( أو القاتمة) و من افلام الاثارة و أفلام هيتشكوك ، على سبيل المثال " شمال في شمال غرب" (١٩٥٩) و غيرها من الافلام...

الطريق مليىء بقصص المغامرات لاشخاص خلف المقود متجهين الى وجهةٍ ما و حيثما تأخذهم أقدارهم. الخلاص قد يكون مبررهم و هو بالفعل كذلك أو البحث عن معنى جديد لحياتهم. نهاية الطريق قد تأتي بالمفاجأت الغير سارة و التي لم تكن في الحسبان . وحده القوي قادر على النجاة أم الضعيف فمصيره مجهول. وقد تكون نهاية الطريق بداية مشوار يعود منه الفرد غانماً بمعاني ومفردات جديدة يُصلح ما فاته سابقاً ، وأحياناً قد تقوده الى الهلاك و اللاعودة وأحياناً قد تكون مغامرة تؤدي الى مزيدٍ من التحدي و الاكتشاف.


لم يأتي فيلم " راكب الدراجة السهل" (١٩٦٩)، ل دنيس هوبر و بيتر فوندا و جاك نيكلسون، من العدم ، بل جاء ليحكي عن جيل بأسره في مطلع حقبة الستينيات ثائر على التقاليد و مقدماً مفاهيم جديدة في الثقافة الامريكية عن أناس ركبوا دراجتهم النارية و توجهوا غرباً و جنوباً ليعيشوا حياة بوهيمية مليئة بالصخب و المخدرات.

حصيلة بيع غنيمة من المخدرات المهربة من المكسيك الى لوس أنجليس تحط بين يدي وات و بيلي ، و تقودهما الى مزيد من التجوال يلتقيان خلالها العديد من المسافرين على الطريق من بينهم تجمعات الهيبيز الباحثين عن زراعة حشيشة الكيف في مكان أكثر أمناً ، الى التجوال عارياً و الغناء ليلاً نهاراً و توزيع الحب بلا قيود. من بعدها يكملا المسيرة الى أن تبدأ المتاعب و يكتشفا أن للحرية ثمناً باهضاً لا تكفي الاموال وحدها لتحقيقه. في أحد المشاهد من الجزء الاخير للفيلم، يقول وات ( بيتر فوندا) لصديقه بيلي (دنيس هوبر) " أتعلم يا بيلي، لقد أضعنا الفرصة" .

بيتر بسكيند في كتابه الشيق " سائقي دراجات سهلة، ثور ثائر " (Easy Riders , Raging Bulls) يتحدث باسهاب عن الظروف التي واكبت فريق العمل الذي انسجم مع الاجواء المختلقة للفيلم و منها ما در من مشادات عنيفة بين فريق التصوير و المخرج/الممثل دنيس هوبر الذي كان أثنائها يتعاطي المخدرات بلا هوادة.

في فيلم " نقطة التلاشي" (١٩٧١. Vanishing Point) للمخرج ريتشارد سارافيان، يختار كولاسكي (باري نيومن) مهنة توصيل سيارات لصالح شركة من مدينة الى أخرى . في فلاشباك نتعرف على مهنه السابقة كشرطي و محارب سابق في فيتنام ، و مُحّترف سباق سيارات و عجلات نارية، وقد تخلى عن كل تلك المهن لعدة اسباب . القصة تتقاطع بين الفلاش باك و الحاضر . يتعرض كولاسكي لملاحقة من قبل الشرطى على خلفية عدم مثوله لاوامرهم بالوقوف ، فتبدأ المطاردات. و اثر سماعه لمعانة كولاسكي ، يسعى صديقه المسمى " سوبر سول" للتحدث عنه ك " أخر أميريكي بطل" مما يجلب له التعاطف من سائقي الدراجات و الهيبيز و غيرهم ممن يتجولون على الطرقات...

أتى هذا الفيلم ليحكي عن المزاج العام لحقبة ما بعد الوود ستاك ( WoodStock) لجيل تأثر بأغاني البيتلز و جيمي هندركس و قرر التمرد على حروب أمريكا في فيتنام ، و منتفضاً على العادات الاجتماعية و التمييز العرقي و مطالباً بحقوق المرأة و متحرراً من كل القيود التي تحد من حرية الفرد في اختيار اسلوب حياته.

التحرر النسائي من القيود الاجتماعية و السلطة الذكورية جاء بقوة في فيلم ثيلما و لويس (١٩٩١. Thelma and Louise) باكورة المخرج ريدلي سكوت و الكاتبة كالي خوري ، ليحكي عن هروب سيدتين من حياتهن العقيمة و الركوب خلف المقود في مغامرة شيقة نحو تخوم الحرية تاركين ضجيج الملاحقات خلفهن. فكلاهما يتمتعان بحس من الوعي الذاتي و الحنكة ، لكن حياتهن لم تصلهن الى أي شىء يذكر . ثيلما ( جينا دافيس) هي ربة منزل وزوجة ضعيفة أمام زوج متسلط يحطم من شأنها ، و لويس ( الرائعة سوسن سارندان) تعمل كنادلة في مطعم ، تلمع لديها فكرة الهروب من كل ذلك و تحث صديقتها ثيلما على تلك الفرصة النادرة التي لن تتكرر مجدداً. المكسيك هي وجهتهن. و بما أن المكسيك تمثل لذلك الوعي " الملاذ الاخير" لدي الامريكين للهروب من ملاحقات السلطة ، فمجرد عبور الحدود الفاصلة هو مكسب للحرية وبداية التجديد (لا يغيب فيلم سام بيكنبا "الهروب " ( The Getaway) ١٩٧١، حول فرار ستيف مكويين و ألي مكرو الى الحدود الاخيرة).

المفاهيم التي تحكم أفلام الطريق تمُد مريديها بحرية قصيرة سرعان ما تتحول الى كابوس من الخوف . ففي حالة ثيلما و لويس تبدأ الحرية من اللحظات الاولى للخروج من منازلهن و تنتهي عند سقوط أحد المعتدين خارج مرأب السيارات لحظة اطلاق النار عليه من مسدس لويس. حريتهن تتعرض للملاحقة و هنا يتحول الطريق الى متعرج خطير لا يسلم منه الا القوي أمام ملاحقة المباحث . هذا وقد أعقبه بسنوات الفيلم الفرنسي " اغتصبني" ( Bais Moi . اخراج فيرجيني ديسبينتس) الذي جاره في موضوعه ، لكنه سقط في تقديم العنف كمبرر والجنس القريب من الاباحية كسبيل للاثارة وليس الا.

اللجوء الى العنف لتحقيق الغايات عند اول تقاطع لمدينة صغيرة ، قد يعود بنا الى أولى الافلام الصامتة مع " سرقة القطار الكبيرة" ( The (Great Train Robbery{١٩٠٣} و لاحقاً بسنوات عديدة في الستينات مع "بوني و كلايد" (١٩٦٧. Bonnie and Clyde) للمخرج آرثر بين و من تمثيل وارن بيتي و فاي دانوي ، لفيلم يجمع ما بين أفلام الطريق و أفلام العصابات ، جاعلاً الكثير من التحولات في صورة تقييم العنف المبني على الفعل وردة الفعل للتجاوزات الحتمية لثلة من عصابة مكونة من رجل وسيدة يقودان عمليات سرقة بنوك و تصديهما لملاحقات الشرطة. هذا الفيلم كان الفاتحة لشهرة كل من جين هاكمن و فاي دانواي و كل من شارك بالفيلم.


بالعودة الى الوراء قليلاً ، و الى صاحب رواية " عناقيد الغضب" ( Grapes of Wrath) جون ستاينبك ، الذي كان كثير التجوال بعربته ، اقتبسها للشاشة ، تحت نفس العنوان، المخرج جون فورد. القصة تنقسم الى ثلاثة أجزاء: فترة الجفاف الذي يجتاح أوكلاهوما في الثلاثينات ، و هي تلك الفترة التي عُرفت بالكساد الكبير، و رحلة عائلة جود الى كاليفورنيا سعياً وراء لقمة العيش وصولاً الى تجارب تلك العائلة المهاجرة في وسط كاليفورنيا. الجفاف الذي تبدأ به الرواية ينتهي بالطوفان . الارض الشاسعة و ما تحمله من جماليات يقترب منها المخرج جون فورد بكاميرته لابراز مدى قسوتها و كيفية تعلق الانسان بها. سفر العائلة المرير من أرضها الى بيئة رحبة ليس بالامر الهين لان الطريق الى السعادة يحمل الكثير من المشقات .

ولان مفاهيم الطريق ليست معبدة لمن يسير عليها ، قد تحمل لمن يجهلها الكثير من المفاجأت . لعل القناعة التي ترسخت في الوعي الارادي ل ثيلما و لويس حول ما قد يكون عليه مصيرهما لدي ركوب عجلة المغامرة و الذهاب بعيداً سعياً وراء أحلام اليقظة بسيطاً و سهلاً مقارنة بما يتربص بهن في نهاية الطريق ، كذلك الشىء بالنسبة لكلاوسكي و غيره ... قد تسير الامور على ما يرام للحظة ما تلبث أن تنقلب رأساً على عقب في لحظة من لحظات القدر. و حقيقة الامر أن فيلم الطريق قد لا يكون معني كلياً بالطريق أو حتي بالرحلة بقدر ما هو مشغول بالبحث عن الامل و مقارعة اليأس.













Days of Heaven











Badlands

تيرنس مالك في فيلميه " أرض السيئين" (. Badlands١٩٧٣) و " أيام الجنة" (١٩٧٨. Days of Heaven) حقق جماليات شعرية متناهية في مشهديته عن ثنائي نقيض بين السيىء و الطيب. السيئين على شاكلة "بوني و كلايد" و عن العلاقة التدميرية التي تتمثل ب كيت ( مارتن شين) ، الذي يرى نفسه على شاكلة ذاك المتمرد الشقي جيمس دين، الذي يقود و صديقته هولي ( سيسي سباسيك) في ركب من القتل المتنقل على وقع تنتمات ترويها هولي بعفوية شاعرية. و الطيبان بيل (ريتشارد غير) و آبي (بروك آدمز) في " آيام الجنة" يتنقلان على ظهر مقطورة القطار بحثاً عن مكان أكثر رحابة يتيح لهما التجوال بين ربوع الارض المنبسطة ليحرثا ملحها بمودة رغم عناد القدر الذي يفرقهما.

بعكس التيار يتجه جو بك (جون فويت) الى نيويورك تاركاً ورائه حياته العادية نادلاً في أحد مطاعم تكساس ليتحول الى مخادع برفقة المحترف راتسو (داستن هوفمن) في شوارع نيويورك بفيلم " كاوبوي منتصف الليل" (١٩٦٩. Midnight Cowboy) للمخرج جون شريسنغلر. أجواء من الواقعية تتعمق في مسيرة الشابان بحثاً عن الخلاص في مدينة صاخبة مليئة بكل أنواع الشغف.

أفلام على شاكلة " التفاف" (De Tour) ، للمخرج ادغار اولمر ، الذي جاء سنة ١٩٤٥ لم يرتكز على اناس متجهين الى الوجهة الغربية سعياً وراء طموحاتهم بقدر ما ارتكز على طموحاتهم الشريرة في اصطياد اناس ابرياء. فليس كل من قصد الطريق الى الغرب كانت نوايه حسنة . فهنا آل (توم نيل) عازف بيانو يتنقل بتجواله بين كل من يصادف مروره غرباً باتجاه لوس آنجيليس، الى أن يحالفه الحض مع رجل بسيارته الفارهة يسقط قتيلاً بعد برهة ، يسارع آل الى سلب محفظته و ملابسه و هويته و يرمي بجثته بعيداً و يستولي على سيارته.


"التفاف" حقق نجاحاً باهراً رغم تواضع ميزانيته، مستعيناً بمجموعة من الممثلين غير محترفين و أماكن قليلة للتصوير، استطاع الفيلم أن يسلط الضوء على جوانب عدة من تلك الاشياء التي تحدث بعيداً عن الاضواء : من استعمال المخدرات الى الاستغلال الجنسي و صولاً الى الجريمة. كلها جاءت مواكبة لنمط الفيلم الاسود السائد آنذاك ، ولا ننسى دور المرأة الخطرة "فام فتال"( Femme Fatale) التي تحترف العمل في ذلك الوسط المعتم من الطريق و حيث تتكاثر سلطة المال و الجريمة سواءاً داخل غرفة في فندق رخيص خارج حدود المدينة أو في وسطها.

في التسعينات جاء المخرج ديفيد لينش بحكاياته الطويلة مع الطريق بدئاً ب " بري في القلب" (Wild at Heart. ١٩٩٠) ، المقتبس عن رواية باري غيفورد ، الذي ينتمي الى جيل جاك كيرواك ، ويدور حول شخصين ، سايلور و لولا، مهوسين جنسياً ، يقررنا الهروب من أم لولا الشريرة التي تبعث بقاتل لقتلهما. و في ظل أجواء من الغموض و فقدان الذاكرة مع فيلم " الطريق الضائع" (١٩٩٧ . Lost Highway) بفيلم مفعم بالاجواء السريالية و الضياع و مستعيداً أجواء الفيلم الاسود.

و في سنة ١٩٩٩خرج دايفيد لينش بفيلم " القصة المستقيمة" (The Straight Story) الذي جاء وقعه كالصدمة على معجبيه ، لكونه انحرف عن القاعدة "اللينشية" التي صبغت معظم أفلامه ( لكن سرعان ما عاد الى أجواءه من جديد بفيلم " طريق مولهلند"- Mulholland Drive- في ٢٠٠١)، هذا أولاً، و ثانياً كون الفيلم من انتاج ديزني وبالتالي لم يشارك لينش في كتابة السيناريو بل أوكل النص الى كل من جون روش و ماري سويني ، و من جهة أخرى ابتعد فيه لينش كل البعد عن الغموض و السيكولوجية التي هي علامات فارقة في جميع أفلامه. اذا " القصة المستقيمة" جاءت مستقيمة من دون لف أو دوران و هو عربون وفاء للممثل الرئيسى ريتشارد فانس ورث الذي انتحر بعد سنة عن نهاية الفيلم اثر معاناة طويلة مع مرض السرطان الذي اعطب رجليه لمدة من الزمن. ريتشارد فانس حمل أوجاعه وجاء ليمثل الدور تحت امرة صديقه ديفيد لينش و حباً بشخصية آلفن سترايت الذي تُشكل قصته الواقعية محور الفيلم. آلفن ستريت من جيل المحاربين القدامى للحرب العالمية الثانية ، يأتي الى سمعه اصابة أخيه البعيد بجلطة، يقرر على أثرها التقرب اليه بعد جفاء طويل استمر لدهر من الزمن. وكون آلفن لا يملك دفتر قيادة من جهة و من كثرة آلامه الجسدية التي قد لا تعينه على مشقة الطريق ، يقرر ركوب جزارة العشب و الاتجاه في رحلة طويلة من مسكنه في ولاية آيوا الى ويسكونسن في الشمال ليجتمع بأخيه. الفيلم ذو دلالات عدة عن رجل يقرر ركوب عجلة تحدي القدر في سبيل الوصول الى أخيه قبل أن يخطفه الموت و ليقدم معاني في رباطة الجأش و الصبر على كل ما قد يعترضه من الوصول الى مسعاه.

لا يقل غرابةً عن تلك الاجواء المخرج الكندي دايفيد كروننبرغ في " الاصطدام" (١٩٩٦ . Crash) الذي أثار زوبعة من الجدل بين النقاد و المشاهدين ، لعمل يجمع بين فانتاسيا غريبة بين تلاحم الجسد و تصادم السيارات كاشباع لتلك الرغبات المتفجرة بعنف. " الاصطدام" هو سليل الرغبات الجنسية القاتلة على قارعة الطريق . و لعله من الواجب التسائل عن ماهية الفيلم : هل هو فيلم طريق بقدر ما هو فجور جنسي لا أكثر ولا أقل ؟ أم أن المخرج كروننبرغ يستعمل امثولة الطريق لسبر أغوار فانتاسيا شخوصه عند تلاحم الجسد بالحديد كغيره من المواضيع التي تحدث للسائرين على الطريق؟ التسائل الاخير هو أقرب الى مفهوم الفيلم الذي يدخل في صلب كل الاشياء التي قد تحدث ضمن هذا النطاق لاناس تقودهم شهواتهم الى المجهول المتمثل بالفانتاسيا المدمرة . بل أن الفيلم مقاربة للعدمية عنه الى اليوتوبيا أو الطموح الى المثالية.

سينما الطريق لم تقف عند حدود الولايات المتحدة (هوليوود و الاعمال المغايرة لها) بل تعدتها الى بلدان أخرى . في فرنسا و مع الموجة الجديدة (Nouvelle Vogue) و أول أعمال جون لوك غودار في " الاهث" (A Bout De Souffle) لسنة ١٩٦٠، الذي يقدم خلاله شاب يسرق سيارة في مدينة مارسي، يطلق النار على شرطي يلاحقه ، يلتقي بصديقته الامريكية ، و يختبأ عندها.. الطريق هنا لشباب يبحث عن الامل و الحياة السهلة.

ولعل أكثر الافلام المتعلقة بالطريق هو ثلاثية أفلام " ماكس المجنون " ( Mad Max) للمخرج الاسترالي جورج ميلر عن عالم ما بعد انهيار الحضارة و القانون و سيادة شريعة الغاب . فيه عالم تحكمه عصابات الطريق و الضعيف لا سبيل لديه سوى اللجوء الى من يحميه ، وهنا يأتي دور ماكس المجنون ( ميل غيبسون ) . فيلم المطاردات و العنف المتناهي ، قسط كبير من اجزاء الفيلم تدور على الطريق و تزداد عنفاً بين الخير والشر كلما تقلصت الحضارة البشرية و ازدادت شراسة الاشرار مع تقدم اجزاء الفيلم.



أما عالم المخرج المستقل جيم جرموش فهو أكثر استقراراً مع " الليل على الارض" (١٩٩١. Night on Earth) الذي يأتي بمجموعة من الاشخاص خلف عجلة التاكسي في مدن مثل لوس انجليس ، نيويورك ، روما، باريس، و هلسنكي. في كل مدينة هناك حكاية و حديث يجمع بين السائق و الراكب. لا يحدث الكثير سوا من بعض الاحاديث الممتعة التي نتعرف من خلالها على فرادة الشخصيات. و كعادة جيم جيرموش يعتمد على البساطة في تركيبة الفيلم و كذلك في أخذ المشاهد لفيلم يولي الاهتمام للامور الاجتماعية المحيطة بسائقي التاكسي على الطريق.

مقابله في الجهة الاخرى للحدود الفيلم المكسيكي " أمك أيضاً" ( Y Tu Mama Tambien) للمخرج آلفونسو كورون ، الذي حاز من بعده على شهرة عالمية أهلته لاخراج واحد من أفلام سلسلة هاري بوتر و أخر في "أطفال الرجال" ، لمغامرات جنسية لشابين مراهقين لا يملكان الكثير حتى يفقدانه تتوسطهما فتاة في العشرينات من عمرها . الطريق يقدم فرصة ممكنة لكليهما حتى يبلغى سن الرشد.

أما المخرج اليوناني ثيو آنجليوبولوس ، الذي يعتبر واحد من أهم عمالقة السينما المعاصرة، الكثير من الاعمال التي تصب في خانة أفلام الطريق لاناس يأتون من بعيد بحثاً عن ماضي غابر و يهيمون في أرض الله الواسعة في تناسق وجداني و واقعي . الاساطير الاغريقية لشعر هومر و اسطورته الاوديسية (الرحلة) لها انطباق خاص و قوي في أفلام آنجليوبولوس . الاوديسيا خاصته تبحر في الوعي الآني وللاسطورة و الذاكرة و يصفها المخرج هنا بالثلاثيته الصامته: صمت التاريخ (بفيلم "رحلة الى سينثيا" ١٩٨٣) ، صمت العشق (" النحال " ١٩٨٦) و صمت الرب (" الارض الشاسعة في الضباب " ١٩٨٨) .


عودة الاجيء السياسي المبعد الى موطنه ليستعيد ماضيه و نسج خيوط التواصل مع عائلته في "رحلة الى سينثيا" (Voyage to Cynthia) ، يستعمل المخرج خلالها التعابير الرمزية لحالة مماثلة عاشها والده الغائب سبيروس ، فيجد ذلك العائد أن الحروب ما أبقت شيئاً في محله و تبدلت معالم القرية التي كان يعرفها ليحل المد العمراني الحديث محلها و ليدرك حينها أن فكرة الموطن قد أصبحت مجرد اسطورة. هذه الحياة العبثية تظهر في " النحال" (The Beekeeper) لجيل فقد شبابه في حروب طويلة و نكسات اقتصادية، تتمثل في رجل في منتصف عمره يدعى سبيروس أيضاً ( يقوم بدوره الممثل الايطالي مارشيلو ماستورياني ) يهاجر الى الجنوب ، بعد أن فقد ابنته لزواج فاشل ، بحثاً عن معنى ما لحياته و محاولاً التواصل مع العالم الحاضر بصحبة شابة لا تعرف الكثير عن ماضيها. سبيروس الهائم من دون وجهة محددة على أرض لم يعد يعرف الكثير عنها. تلك الارض الاسطورية هي ذاتها في " الارض الشاسعة في الضباب " ( Landscape in the Myst) التي يسير تجاهها الاخوين ، فوالا و أليكسند ، في محاولة منهما للبحث عن الاب الشرعي كما جاء بوصف والدتهما التي تعيش في المانيا. الفيلم يعبر عن رحلة جيل بحثاً عن الهوية و عن التواصل مع الاجداد.

هارفي كايتيل في " نظرة أوليسيس" (١٩٩٥. Ulysses' Gaze) للمخرج أنجليوبولوس ، يأدي دور مخرج في المنفى يذهب في رحلة عبر بلاد البلقان لاستعادة أجزاء من أفلام مفقودة للاخوة مناكيس الذي كان لهم الفضل في تعريف أبناء المنطقة بالسينما. رحلة كايتيل مرهقة و مشحونة بالمشاعر على أرض شهدت الكثير من التقلبات التاريخية و الحروب الطاحنة.

خلاصةً ، يمكن للطرقات أن تتغير معالمها و تتبدل ، لكن روادها لا يتبدلون ، هم ما زالوا الى اليوم هائميين في كل الاتجاهات شمالاً وجنوباً، شرقاً و غرباً ، بحثاً عن حياة أفضل ، أو أمل متجدد ، عن أحلام غير متناهية ، و عن فرص قد لا تتكر ، مقارعيين اليأس أو مستسلمين له ، أو باحثين عن الخلاص في كل مكان أو في المكان الخاطيء ، أو لعلهم لا يكلون عن البحث...

-----------------------------------------------------------------------------------------------------------
تم الاستعانة بالمصادر التالية لكتابة المقال:

  • On the Road, a Book by Jack Kerouac
  • Movie Mad America: A Cultural History of American Movies, a book by Robert Sklar, P. 357
  • Easy Riders, Raging Bulls, a Book by Peter Biskind
  • Great Directors, Angelopoulos, Senses of Cinema: Directors database
  • www.hackwriters.com) Article: The Road Movie by Sam North, Part. 1 and Part 2)

٢٠٠٩/٠٣/١٩

مهرجان بيروت الدولي للافلام الوثائقية (DocuDays) الذي عملت فيه كمبرمج أفلام منذ ٢٠٠٥ لغاية توقفه المؤقت لاسباب عدة بعد حرب تموز ٢٠٠٦ ، يلفت الزميل نديم جرجورة في جريدة السفير الانتباه لأهمية هذا المهرجان ضمن نطاق العمل الفني و الثقافي في العالم العربي .
--------------------------------------------------------------------------------------------------

نديم جرجورة

تفتقد بيروت واحداً من مهرجاناتها الأقدم تأسيساً، والأثبت في استمرار مؤسّسيه تنظيم دورات سنوية. فمنذ ثلاثة أعوام تقريباً، أقيمت الدورة الثامنة لـ»مهرجان بيروت الدولي للأفلام الوثائقية»، بعد أسابيع قليلة على انتهاء الحرب الإسرائيلية ضد لبنان، صيف العام 2006، وهي الدورة الأخيرة له، بعد أعوام عكست جهداً لافتاً للانتباه في مستويات عدّة، أبرزها قدرة إدارته على إفراد مساحة متواضعة لأفلام وثائقية أجنبية وعربية، امتلكت جماليات فنية وتقنية ودرامية مختلفة. وعلى الرغم من الالتباس الكبير الذي رافق آلية تنظيم الدورات الثماني، استقطب المهرجان أسماء وعناوين سينمائية، شكّل (بعضها على الأقلّ) جزءاً بارزاً من المشهد الوثائقي الدولي؛ وبات إحدى النوافذ العربية القليلة لإطلالة غربية على النتاج العربي، ولتواصل عربي مع الغرب، مهرجانات وعروضاً متفرّقة.
لم يكن المهرجان البيروتي هذا أسير التنافس على الجوائز، لأنه ارتأى، منذ البداية، أن يُفسح مجالاً أساسياً للفيلم الوثائقي كي يُقدّم نفسه أمام المهتمّين به، ولهؤلاء الأخيرين كي «يتمتّعوا» بمشاهدة الروائع المصنوعة في العالم. ولأنه رأى في اختيار اسمين اثنين في صناعة هذا الفيلم، عربياً وأجنبياً، لتكريمهما سنوياً، أفضل من إغراق الأفلام ومخرجيها ومشاهديها في مسابقة «لا طائل منها» غالباً. بمعنى آخر، وعلى الرغم من الملاحظات المتفرّقة التي تُساق حوله، برهن المهرجان على اهتمام واضح بالجانبين الثقافي والفني، ومنح الفيلم الوثائقي أرضية محلية مهمّة وجميلة.
يُطرح سؤال غياب هذا المهرجان حالياً، لأن الجماليات الحديثة في صناعة الفيلم الوثائقي بلغت مرتبة رفيعة المستوى من اللغة البصرية الإبداعية، في لبنان والعالم العربي والغرب؛ ولأن الفيلم الوثائقي هذا يعاني صعوبات شتّى، تبدأ من تمويله وتكاد لا تنتهي عند البحث الدؤوب عن حيّز للعرض النخبوي والجماهيري معاً؛ ولأن العالم العربي منجذبٌ إلى النجوم والصناعة الروائية وفنون العرض المختلفة، على مستوى مهرجاناته الكثيرة، على حساب الفيلم الوثائقي، المحتاج إلى مهرجان مستقلّ بحدّ ذاته، علماً بأن مهرجان الإسماعيلية في مصر، مثلاً، أشرك مع الوثائقي أفلاماً قصيرة وتجريبية، بالإضافة إلى أفلام التحريك؛ بينما لا تتردّد إدارات مهرجانات عربية أخرى عن تخصيص جانب من برمجتها بهذا النوع السينمائي، لكن ضمن إطار برنامج منفتح على الأنواع البصرية كلّها، في حين تخصّص مهرجان المحطّة التلفزيونية الفضائية العربية «الجزيرة» بالجانبين التلفزيوني والتسجيلي، أكثر من أي شيء آخر.
أما الطامة الكبرى فكامنةٌ في عدم انتباه متلهّفين على تأسيس مهرجانات سينمائية جديدة، في لبنان والعالم العربي، إلى الأهمية الإبداعية للفيلم الوثائقي، وفي عدم إيلائهم إياه أدنى اهتمام، وعدم رغبتهم في بذل جهد ما من أجله. ومع أن المهرجانات اللبنانية الأخرى تختار أفلاماً وثائقية، إلاّ أن هذه الأخيرة محتاجة إلى مهرجان خاصّ بها. غير أن الراكضين وراء بهرجة إعلامية وقطاع عام، منشغلون عن السينما باستعراضاتهم الإعلاميّة الباهتة.

٢٠٠٩/٠٣/١٣

And So It was

وذات يوم قررت أن أترك التلفزيون وأغادر تاركاً ورائي سنتين لم تقدم أو تأخر كثيراً في حياتي. ذات يوم أتت لي فكرة كتابة برنامج عن السينما بكل جدية للتلفاز . لم يكن الهدف من البرنامج التعاطي بميوعة مع الموضوع ، لانني ملتزم سينمائياً وسأبقى كذلك ما دمت حياً. لم يكن الهدف منه التركيز فقط على الممثل أو الممثلة بل تحديد دور المخرج و كاتب السيناريو و الخلفيات الاخرى في الفيلم . المشكلة كانت في تعاطي التلفزيون مع الحلقات ، لانه صاحب الانتاج ، وهذا خطأ ، لان اسناد العمل الى شركة انتاج متخصصة قد يحقق نتيجة أفضل ان على صعيد التصوير ، الاخراج و نوعية المنجز. الحلقات كانت عبارة عن مقدمة البرنامج ( حسنة المظهر و تمتلك الثقافة اللازمة و ليست من أصحاب التبرج و الادعاء فقط. و لانني لست مع التميز الجنسي هنا ، مع أن الاختيار لا يعود لي فقط، و لكنني اعتمدت على معيار المعرفة و الثقافة لا على الجنس) تجلس في غرفة بروجيكتر و خلفها أفيش الافلام و باكورات قديمة و تتحدث عن فيلم السهرة الذي سيعرض بعد قليل و أحياناً تنتقل المقدمة الى صالة عرض حقيقية لتقديم الحلقة. خلال الحديث عن المخرج (ة) أو الممثل (ة) ننتقل الى أحد أعماله(ا) القديمة و نشاهد بعض اللقطات ، وبعدها يتم عرض فيلم السهرة.

اختيار فيلم السهرة لم يكن سهلاً نظراً لعدة عوامل : القائمة طويلة لكن ليست كل الافلام الجيدة ( مثلاً " سفر الرؤيا" للمخرج الرائع فرانسيس فورد كوبولا ناظلت من أجل الحصول عليه لكن دون نتيجة ) يمك الحصول عليها نظراً لان بعض الافلام لا يحق لها أن تعرض فضائياً بينما يمكن عرضهآ محلياً أو العكس ، هذا من جهة ، و من جهة أخرى ليست كلها في جعبة الموزعين و اعطاء حقوق عرضها قد يستغرق شهوراً بل سنة أو سنتين أحياناً ، هذا بالاضافة الى تراوح السعر من فيلم الى آخر. الا أنني استطعت أن أجد الافلام القادرة على تحقيق الغرض من البرنامج. ثلاثة أفلام ، على ما أذكر ، تم عرضها على الشاشة للمخرج مارتن سكورسيزي من بينها " شوارع قاسية" (١٩٧٣)، " عصابات نيويورك" (٢٠٠٢) و "ملك الكوميديا" (١٩٨٢) ، و كذلك فيلم لرابورت آلتمان ، وآخر للمخرج جون بورمان و البريطاني مايك لي ، وصولاً الى فيلم "سوف تحملنا الرياح " (١٩٩٩) للمخرج الايراني عباس كيروستمامي ، الذي استضفت يومها الناقد و المخرج السينمائي فجر يعقوب ليتحدث عن المخرج و عن كتابه " عباس كياروستامي : فاكهة السينما الممنوعة " .

لكن البرنامج لم يدم طويلاً قبل أن يتحول الى مهزلة من الامبالة سواءاً من مخرج الحلقة ( ويعيني على البطاطا) ، و بعد فترة من الوقت من الادارة ، مع أنه كان يحقق نسبة مشاهدة عالية مقارنة مع برامج "الهشك بشك " (شكراً للريموت كونتول و لقناة كوكب الحيوانات) ، اضررت أن أنسحب بهدوء و كذلك فعلت مقدمة البرنامج.

في بعض الاحيان ، قد يحطم التلفزيون مواهبك و يحولك الى مجرد انسان آلي لا يملك قراره و تشعر معه و كأنك تتحرك داخل صندوق مغلق ، و في بعض الاحيان قد يستفيد من مواهبك ويواكب تطورها. هناك مخرجين و كتاب سيناريو و حتى منتجين انطلق نجمهم من على شبكات التلفزة. المخرج سيندي لوميت أتى من التلفاز الى السينما وليس العكس ، وهناك الكثير من المخرجين الذين حققوا أفلام للتلفزيون (لا يوجد أي شيء من هذا في عالمنا العربي الذي لا يقيم اى اعتبار لمثل هذه الاعمال) بشراكة بين شبكة التلفاز و شركات الانتاج السينمائية. كذلك فعل بعض كُتاب السيناريو الذين انتجوا لشبكات تلفزيون الكيبل في أميركا ، أوروبا و حتى أسيا ، الكثير من الاعمال التلفزيونية التي تشبه بحرفيتها الافلام السينمائية . هل هناك من لم يشاهد مسلسل المافيا " سوبرانوز" لكاتب النصوص و منتج بعض الحلقات ، ديفيد شايس ؟ كذلك فعل آلن بول في المواسم الخمسة لمسلسل " ستة أقدام تحت الارض " لعائلة تمتلك منزلاً متخصص بمراسم الدفن و عن علاقة الموت والحياة بكل فرد من أفراد الاسرة. و شبكة التلفزيون البريطاني (بي بي سي) انتجت مسلسل " المكتب" الذي حقق نجاحاً باهراً امتدت اصدائه الى الولايات المتحدة بسبب موضوعه الذي يدور حول أزمات العمل و الموظفين ، وقربها الشديد من تلك الموجودة في المدن الامريكية الكبرى . و الكثير الكثير قد يقال في هذا المجال.


Network

هناك فيلم يستحضرني الآن، لرمزيته و ليس الا، هو فيلم المخرج سيدني لوميت " الشبكة" (١٩٧٦) من تمثيل فاي دانواي ، بيتر فينش و روبرت دوفال ، في فيلم ساخر يدور حول محطة تلفاز تصارع من أجل الحصول على أعلى نسبة من المشاهدة تدفع بمقدم الأخبار هوارد بيل ( بيتر فينش) الى الحافة حين يأخذ بتذمره من على شاشة التلفاز استثارة اعجاب مدير المحطة ( روبرت دوفال ) عوضاً عن اتخاذه اجراء بحقه. وفي واحدة من أشهر الاقوال في تاريخ السينما، يقف هوارد من علي كرسيه و يصرخ " أنا غاضب كالجحيم ، و لن أتحملها بعد الآن " . هذا الصراخ يثير الجماهير التي تخرج الى نوافذها مرددة غضب هوارد. وهكذا يصبح هوارد وبرنامجه من أكثر البرامج شهرة على الاطلاق.

٢٠٠٩/٠٣/١١

مصادفات قاتلة

بدأ التخطيط للعملية مساءاً و جاء التنفيد الشيطاني في الصبا ح الباكر . هكذا قرر مايكل ماكليندون أن ينهي حياة أشخاص يتمتعون بالحياة لانه أصبح من دون عمل في يومٍ من الايام. هي لحظات من الاستسلام لوهن اللحظة من دون مواجهتها بل الخضوع لكل ما تحمله من وهن و انحطاط فكري و عدمية نهلستية.

في مدينة سامسون بولاية آلاباما ( البعيدة نسبياً عن مدينة بيرمينغهام حيث كنت أسكن. تقع الى الجنوب و محاذية لحدود ولاية فلوريدا)، أقدم مايكل ماكليندن على حرق بيت والدته و أخذ من بعدها يطلق النار بلا هوادة على أربعة أعضاء من عائلته كانوا يجلسون بالجوار ، من بعدها ركب بسيارته و توجه الى جنوب شرق سامسون في مقاطعة جينيفا و فتح فوهة مسدسه من نافذة سيارته على كل من صادف مروره سواءاً من امرأة تغادر محطة البنزين، أو من رجل يقود سيارته بجوار القاتل أو حتى من شخص حاول الفرار لكن القاتل عاجله برصاصه من الخلف . الاحتياط الكافي من الرصاص ساعده في افراغ ناره العشوائي مصيباً شرطي و طفل بجراح بالغة. الى أن وصل ماكليندون الى معمل صناعة الحديد كمحطته الاخيرة لافراغ جنونه في كل من ساهم ولم يساهم في طرده، لكن الشرطة لاحقته الى المكان و دار تبادل اطلاق النار الى ان وجه مسدسه الى نفسه و أطلق النار لينهي حياته.

ماكليندون لم يأتي بجديد في سلسلة ثورات القتل الجماعي التي تعصف بكل مدينة أمريكية، مخلفةً ورائها عشرات القتلى و مئات الجرحى كل سنة. المخرج مايكل مور في " بولينغ من أجل كولومبين " (٢٠٠٢) - أعقبه غاس فان سانت في السنة التالية بفيلم " الفيل" (٢٠٠٣) يروي فيه تفاصيل القتل المجاني داخل مدرسة كولومبين من زاوية الشاب العشريني الذي دار عملية القتل العشوائي - لامس الموضوع من نواحيه كافة من حيث توافر السلاح بين أيدي الافراد بكثرة وسط لا مبالاة الحكومة بتقيد انتشار السلاح بين أفراد المجتمع ، و جشع تجار الاسلحة و الجنون المستحكم بالعقليات و النفوس حول العنف. لكنني هنا لست بصدد الدخول في ثقافة العنف و الافلام التي سلطت الضوء على هذا الموضوع لانه ملف طويل ومتشعب تم التطرق اليه عبر تاريخ السينما.

لكن ما لفتني للكتابة عن حادثة اليوم ، هو القتل بالصدفة. في رائعة المخرج كونتين تارنتينو " بولب فيكشن " (١٩٩٤) ، يصادف مرور بروس وليس ، الهارب من مباراة الملاكمة المدفوعة سلفاً، من أمام رئيس العصابة مارسيلوس والس ، الذي يلاحقه بمسدسه محاولاً التخلص منه في الشارع ، يصيب خلاله فتاة شاء مرورها بالصدفة من أمام القتال الدائر. هذا المشهد يتكرر في " الغضب" (١٩٩٥) للمخرج مايكل مان ، حين تحتدم المواجهة ما بين لصوص البنك و الشرطة في قلب شوارع مدينة لوس أنجليس ويذهب ضحيته المارة و الموظفين ممن فوجئوا بتلك المعركة العنيفة . المشهد يتطابق مع كل الحوادث الحقيقية لحفلات القتل المجاني، لدي خروج ميكي و مالوري من عذاباتهم السيكولوجية منذ الصغر الى شوارع المدن لافراغ نقمتهم على ذاك المجتمع الذي ساهم في ايصالهم الى أن يكونوا على ما هم عليه في
" طبيعة قتلى بالولادة" (١٩٩٤).

أحدهم قال يوماً " أن غذابات أميركا سوف تلاحقها الى الابد" ، و هذه العذابات تنفخ في روح ماكليندون و غيره على مرور الزمن محوليين يوماً عادياً الى جحيم عشوائي على قارعة الطريق.

٢٠٠٩/٠٣/٠٧

كينسكي : كل ما أريده هو الحب



لم يغادر كلوس كينسكي مخيلتي خلال مطالعتي لكتاب جاك كيرواك " على الطريق " (الذي سأتحدث عنه في الاسابيع القادمة عن علاقته بأفلام " على الطريق") حين يأتي سال ليلاقي صديقه الحميم داين موراتي الذي لا يختلف كثيراً عن كلوس كينسكي ، الكثير يفرقهما لكن الهوس الفاقع بالجنس و تهاوي المهنية الى الحضيض يجمعهما بشكل متطابق. فكما هو الحال مع داين موراتي ، الذي لا يفارق صفحات الكاتب الذي يقطع مسافات شاسعة ذهاباً و اياباً ما بين الشرق في نيويورك كمسكن و الغرب في مدينة سان فرانسيسكو كأقصاها، كذاك الشيء الذي جمع الممثل كلوس كينسكي في أربعة أفلام مع المخرج فيرنار هيردزوغ.

الدخول الى عالم الممثل كلوس كينسكي ليس بالامر الهين نظراً لصعود نجمه الحاد في فترة من الفترات و انحداره بعد ذلك الى مستويات ما دون الاشيء . هو مارلين براندو أوروبا ، و في ألمانيا لورانس أوليفير نظراً لجسارة أدائه المتميز على خشبة المسرح وخلف الكاميرا. ظهر كلوس كينسكي في العديد من الافلام التي قاربت ال ١٥٠ فيلماً ، و معيراً شخصيته ، المعروفة بسرعة الانفعال والعصبية، الى المارقيين في عالم السينما و مبتعداً عن مخرجين مهمين في هذا العالم. ومن الذين كتبواعنه وصفوه بأنه عبقري ، مهوس بالجنس و لديه عقدة جنون العظمة و احتمال كونه ملامساً للجنون.

هو كلوس غانتر ناكسينسكي من مواليد أكتوبر ٨ لعام ١٩٢٦ قرب دنسيغ في آلمانيا البروسية ، والتي عادت لتصبح غدنسك في بولندا. انتقل مع والديه الى برلين وترعرع هناك. انضم الى الجيش الالماني في اواخر الحرب العالمية الثانية، ووقع في شرك التحالف المضاد وأمضى ستة عشر شهراً كأسير حرب في أحد المعتقلات.

اختار كينسكي منهجاً خاصاً لحياته قائماً على امرين : الجنس و جمع المال. وكل ما عدا ذلك يعد ثانوي. و لهذا الاسلوب من حياة المجون و السعي وراء نزوات الشهوة حاصداً عدد ليس بقليل من النساء في فراشه. وهذا ما عبر عنه في كتاب سيرته الذاتية الايروتيكية " كل ما أريده هو الحب" الصاطع في المجون و الاباحية في دفة صفحاته ، و لم يستثني صناع السينما من هجومه العنيف . لكن كتابه هذا لم يسلم من الملاحقات القانونية ، الى أن وجد طريقه لماماً في اسواق بريطانيا و الولايات المتحدة تحت عنوان " كينسكي غير مختصر".

كلوس كينسكي في مشهد من فيلم " فيتزغيرالدو "

بدايةً كان كالمتجول على المسارح الالمانية ، أدى خلالها أدواراً بارزة و عند استراحته داعب صديقاته في المهنة (كما أتى على ذكره في كتابه). شهرته سرعان ما انتشرت في أرجاء برلين ، المدينة التي كانت تعيش أزمات متتالية بحثاً عن من ينقذ روحها و لوهلةً ما قد وجدتها في صطوع نجم كلوس كينسكي . وجدته في ذاك المحترف في الاداء المسرحي ، و المثير للجدل والثائر على الجمهور. وجدته في طريقة القائه الصارخ للغناء الشعبي في حانات المدينة ، و ليتحول تباعاً الى واحد من أهم الفنانين ما بعد الحرب. كينسكي كان كالمخلص من الوهن و الذنوب الثقيلة التي ألمت بألمانيا ما بعد الفاشية في عصر الانحطاط و البحث عن نقيض البطل لتجد في كاريسما كينسكي ما تبحث عنه و تغرف منه مأساتها .

اختصاراً لتاريخه المسرحي الحافل بالمتاعب و دخوله المصح النفسي جراء تناوله جرعات زائدة من الحبوب المسكنة للالام و عصبيته المفرطة التي ادت الى اعتدائه بالضرب على شرطي وعلى اثره دخوله السجن ، لم تكن بداياته السينمائية في السيتينات موفقة ، فظهر في العديد من الافلام الرخيصة تنوعت ما بين الويسترن ، وأفلام الجاسوسية و الرعب. الى انطلقت أولى شرارته العالمية مع المخرج البريطاني ديفيد لين سنة ١٩٦٥ كممثل مساعد في " دكتور دزيفاغو" و مع المخرج الايطالي سيرجي ليوني في " من أجل مزيداً من حفنة الدولارات" (١٩٦٥) ، لكن كل ذلك لم يرق كثيراً لكينسكي مفضلاً ترك سفينة الشهرة تتحطم على صخرة الشاطىء ، مع عدم اكتراثه للقب مارلين براندو أوروبا.

انتقل من بعدها الى روما عارضاً خدماته الى من يدفع أكثر، ومثيراً الاستغراب لدي الكثيرين لاعتقاده أن الافلام سواسية عديمة الفائدة . ولم يكترث لعروض سخية من مخرجين ذو شئن كشاكلة كين راسل، آرثر بين، فيلليني، فيسكونتي و باسوليني ، مبرراً رفضه ذلك بقلة الاجر المقدم من قبلهم.

السبعينات كانت حافلة بمزيدٍ من علاقة المودة والكراهية ما بين كينسكي و المخرج الالماني فيرنار هيردزوغ . وهذا الاخير أنقذ السمعة المتهاوية لكينسكي بتقديمه في سلسلة من الافلام التي حفظت له مكانة في التاريخ. هذا و لم تخلو علاقتهما من الحدة و الكراهية المتبادلة و الصداقة في نفس الوقت. فيرنار هيرزوغ الباحث عن تلك الشخصية المثيرة للجدل ، المتمردة والمعزولة عن محيطها، وجد ظالته بكلوس كينسكي.

تعود سر العلاقة القديمة الى ميونيخ الخمسينات حين قدمت عائلة هيردزوغ مسكناً لكينسكي . و يروى أنه خلال ثورات الغضب التي طبعت تصرفات كينسكي ، لجيء الى عزل نفسه لمدة يومين في الحمام و محولاً اياه الى مجرد رماد. هذه الحادثة أثارت اعجاب هيردزوغ.

كينسكي في "أغيري ، غضب الرب "

أولى الاعمال التي عمل فيها كلوس كينسكي للمخرج هيردزوغ كان بفيلم " أغيري ، غضب الرب " (١٩٧٢)، فيه وصل الى موقع التصوير
في بيرو ، مشوش الذهن بعد تجسيده جولة من درب آلام المسيح ، أثار الكثير من المتاعب على حلبة التصوير - وهذا ما تشعر به وأنت تشاهد الفيلم - لا يلبث أن يمارس تملقه باطلاق الرصاص من مسدسه تجاه مجموعة من الممثلين الاضافيين مصيباً أحدهم بجروح. هذا الامر استدعى من المخرج هيردزوغ ، المعروف باصراره المتواصل على التصوير في ظروف شديدة القساوة ومستحيلة أحياناً، الى تهديد الممثل بالسلاح للبقاء حتى الانتهاء من التصوير.

انقطعت العلاقة بين الاثنين الى أن هدئت حميتها وعاد كينسكي للظهور مجدداً مع المخرج في أعماله: " نوسفراتو " (١٩٧٩) و " يوزيك" من نفس العام . خلاله رفض الظهور بأية لقطات اضافية ما لم يتلقى أجره معللاً ذلك : " هل تطلب أخذ لقطة أخرى لتحطم سيارة ؟ أو تطلب لقطة ثانية لانفجار بركان ؟ ". في المقابل، اعتبره هيردزوغ " كواحداً من أهم ممثلين العصر ، لكنه أيضاً متوحش و وباء كبير ".

مع قدوم فيلم "فيتزغيرالدو" (١٩٨٢) ، الذي فاز عنه هيردزوغ كأفضل مخرج في مهرجان كان، ازدادت ثورات الغضب لكلوس كينسكي و أصبحت خارجة عن السيطرة في واحد من أكثر الافلام خطورةً و ضرباً من الجنون. القصة تدور حول فيتزغرالدو الذي يقوده هوسه بالاوبيرا الى محاولته نقلها الى أدغال الامازون وعليه يعمد الى الاستعانة بمجموعة من السكان المحليين لنقل القارب الكبير على سفح الجبل من ضفة النهر الى ضفة اخرى. لم يستعن هيردزوغ بأي من تقنيات المؤثرات الخاصة كتجربة فريدة ، أراد منها ان يلغي الحاجز الرفيع ما بين الروائي و الوثائقي، وعليه فإن عدداً لا بأس به من الذين شاركوا بالفيلم قد تعرضوا لاصابات مختلفة خلال نقل القارب، كما يظهر في الفيلم الوثائقي " عبء الاحلام" الذي صور المجريات الخلفية للفيلم.


وضع هيردزوغ سيناريو "كوبرا فيردي" (١٩٨٨) بين يدي كلينسكي ، مدركاً تمام الادراك أنه الفيلم الاخير الذي سيجمعهما سويةً. استجاب بدوره كينسكي للعرض. "كوبرا فيردي " كان اقتباساً عن رواية بروس شاتوين " انتصار عويدا" الذي يدور حول حياة فرانسيسكو مانوييل دي سيلفا (الملقب بكوبرا فيردي ) الذي كان تاجر للعبيد على السواحل الغربية لافريقيا. جرى تصوير الفيلم في غانا ، البرازيل و كولومبيا ، في حين وصلت عقدة كراهية البشر لدي كينسكي حداً لا يطاق، بدأ يشتم و يصرخ في كل من تعاطى معه، فلم يسلم الممثلين و العاملين من صخطه و غضبه ، كذلك الامر تفاقم مع المصور توماس موش الذي اضطر للانسحاب من المشروع بعد تعرضه للاهانات الممتالية من الممثل الغاضب ، مما استدعى من هيردزوغ لاستبداله على عجالة بالمصور فيكتور روزيكا. وبعد الانتهاء المضني من الفيلم ، حين وصلت الامور الى حد اللا رجعة ، تعهد الطرفان بعدم العودة الى العمل معاً مرة أخرى و هكذا كانت نهاية المشوار بين الممثل و المخرج. مشوار حافل بالمتاعب و الشقاء ، بالمودة و الكراهية بين الطرفين ، و صف خلاله كينسكي في مذكراته هيردزوغ
" بالجاهل، و استحالة العمل معه، و حتى بالمستبد " ، و أسهب في شرح وجهة نظره قائلاً :

أجبرت أن أصور من دون أخذ استراحة. صرخب بهيردزوغ و ضربته. كان علي أن اصارع من أجل كل جزء. كم اتمنى أن يلتقط هيردزوغ ذالك المرض أكثر من أي وقت. حتى أنه كان أقل حيلةً، أكثر غبائاً و في نفس الوقت أكثر اصراراً ضدي مما كان الحال عليه سابقاً في الافلام الاربعة التي عملت فيها معه. و بالرغم من حاجته الماسة لمساعدتي ، و تضاهره بتقبيل مؤخرتي في سبيل ذلك، عمل العكس من وراء ظهري. الناس في غانا لطيفيين و مسالمين. علم هيردزوغ كيف يستغلهم لمصلحته. أنا مدركاً لاساليبه الاجرامية و الاستعبادية منذ بيرو ، حين لجىء لؤلائك الاكثر ضعفاً، و حينها نعته بأدولف هيتلر. في غانا تفوق على نفسه.

في هذاالصدد أتى الرد من هيردزوغ على كراهية كينسكي له معلقاً على أدائه الذي " أصبح خارجاً عن السيطرة" . وجائت آرائه بالممثل بشكل أوضح في ثنايا فيلمه الوثائقي " صديقي العزيز " الذي انتجه سنة ١٩٩٩ كاستعادة لذكرى الممثل حيث ناقش العلاقة التي جمعتهما معاً، الكره المتبادل ، و الارث الحافل الذي تركا بصماتهما عليه. و علق مؤخراً : " لقد أكملت واجبي كجندي ، حارساً لموقع لا يجرى أحد على تحمله".
كينسكي و هيردزوغ في " صديقي العزيز "

و حين لم يأبه لسمعته السيئة في المحيط الفني - لعل ذوقه لامس الحضيض لدي مشاركته في فيلم بروبوغاندا اسرائيلي عنوانه "عملية الصاعقة" (١٩٧٦) - علق كينسكي قائلاً " أختار الافلام ذات العمل القصير و الاكثر أجراً "، و مبرراً لامبالاته " صنع الافلام أفضل من تنظيف المراحيض". و أعلن تذمره من جائزة تكريمه قائلاً " ماذا تعني هذه الجائزة على أية حال ؟ هل هي تقدير ؟ ومن أجل ماذا ؟ من أجل آلامي ، معاناتي ، يأسي ، دموعي ؟ وليس هناك حتى شيك ! هذا شائن ! " . في بداية الثمانينيات ، حزم كينسكي أمتعته وتوجه الى شمال كاليفورنيا، معللاً قراره ، " أفضل تنظيف الصحون في أميركا على صناعة الافلام في أوروبا " . وحين حط موطىء قدمه في كاليفورنيا، استقبله المخرج ستيفن سبيلبرغ و عارضاً عليه " المغيرين من آرك المفقود " (١٩٨١) . لم يقبل العمل المقدم و وصفه " بمنتهى الغباء الخرائي " . عوضاً عنه قبل العمل في "السم " (١٩٨٢) لصالح أجر مضاعف من المال .

آنذاك شهدت مسيرته الفنيه انحداراً لم يسبق له مثيل ، فتفرغ لمن يدفع أكثر، قائلاً : " أنا أبيع نفسي لأعلى سعر. تماماً كالمموس ، لا يوجد الكثير من الفرق". ظهر من بعدها بفيلم بيلي وايلدر الركيك " صديقي صديقي " (١٩٨١) ، و أخر بائس " اندرويد " (١٩٨٢) و لاحقا بفيلم " فتاة الدرمز الصغيرة " (١٩٨٤) ، و أكثرسوءاً في فيلم " فاكهة الشغف" (١٩٨١) الذي وُصف بأنه شبه اباحي . تلك الاعمال لم تقل سوءاً عن تصرفاته المفاجأة حين طالب أجراً يومياً يقدر بالخمسين ألف دولاراً كحد أدنى على مواقع التصوير ، و في نفس الوقت رافضاً أخذ تعليمات من أية جهةٍ كانت، و ليس أقله اصطحابه لعدد من الحسناوات الى فراشه.

حين انصرف الجميع من حوله، جاء "باغنيني" (١٩٨٩) كآخر عمل يتيم لكينسكي، و كمُخرج و ممثل لعمله هذه المرة ، بعيد ابتعاد هيردزوغ عنه ، مستعيداً خلاله سيرة العازف المشهور نيكولا باغنيني . الفيلم أتى وقعه على جمهور مهرجان كان كالاضحوكة ، و لم يكن سوى الفتيل الذي أشعل غضب كينسكي و أثار حنقه على المشاهدين و لجنة التحكيم واصفاً اياهم بالحمقى و على عجل غادر المهرجان عائداً الى كاليفورنيا.

في السنوات الاحقة ، وفي نهار الثالث و العشرين من نوفمبر لعام ١٩٩١، عاجلته نوبة قلبية غاضبة أنهت حياته ، تاركاً ورائه حفنة من الأعمال ذات القيمة الفنية ، ورزمة من الأفلام السيئة و سيرة حافلة بالكثير من المتاعب ، الخيبات، ثورات من الغضب ، شهوات ايروتيكية
و سير لنساء عابرات.

على ضفاف المحيط الهادىء نُثر رماد كلوس كينسكي بحضور ابنه نيكولاي و المخرج هيردزوغ الذي آتى ليتذكر تلك الايام المضنية التي لن تعود سوى على شرائط السليوليد. عند الانتهاء من المراسم، أتت الامواج العاتية على رماد ذاك الذي لم يرد سوى الحب و ابتلعته في محيط النسيان.

-----------------------------------------------------------------------------------------------------
* تم الاستعانة بالمصادر التالية لكتابة هذا المقال :


- Klaus Kinski Biogrpahy on imdb.com
- UNCUT magazine, December 2001 , Take 55, P. 64
- Fitcarraldo on wikipedia.
-Cobra Verde on Wikipedia.